الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ

التقدير: وإلى مدين أرسلنا أخاهم شعيبا، واختلف في لفظة مدين فقيل: هي بقعة، فالتقدير على هذا: وإلى أهل مدين- كما قال: وسئل القرية - وقيل: كان هذا القطر في ناحية الشام، وقيل: مدين اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه، ومدين لا ينصرف في الوجهين، حكى النقاش أن مدين هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا بعيد وقد قيل: إن شعيبا عربي، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط، ودعاء "شعيب" إلى "عبادة الله" يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك بين من قولهم فيما بعد، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافيا ويعطوا ناقصا في وزنهم وكيلهم، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضا.

وقوله: بخير قال ابن عباس : معناه: في رخص من الأسعار، و "عذاب اليوم المحيط" هو حلول الغلاء المهلك. وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق وقيل: لهم قوله: بخير عام في جميع نعم الله تعالى، و "عذاب اليوم" هو الهلاك الذي حل بهم في آخر، وجميع ما قيل: في لفظ "خير" منحصر فيما قلناه.

ووصف "اليوم" بـ "الإحاطة" وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم: وقد يصح أن يوصف "اليوم" بـ "الإحاطة" على تقدير: محيط شره. ونحو هذا.

وكرر عليهم الوصية في "الكيل والوزن" تأكيدا وبيانا وعظة لأن "ولا تنقصوا" هو "أوفوا" بعينه.

لكنهما منحيان إلى معنى واحد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وحدثني أبي رضي الله عنه، أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يعظ الناس في الكيل والوزن فقال: اعتبروا في أن الإنسان إذا رفع يده بالميزان فامتدت أصابعه الثلاث والتقى الإبهام والسبابة على ناصية الميزان جاء من شكل أصابعه صورة المكتوبة فكأن الميزان يقول: الله الله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا وعظ مليح مذكر. والقسط العدل ونحوه، و "البخس" النقصان، وتعثوا معناه: تسعون في فساد، وكرر مفسدين على جهة التأكيد، يقال عثا يعثو أو عثى يعثي، وعث يعث، وعاث يعيث- إذا أفسد ونحوه من المعنى، والعثة: الدودة التي تفسد ثياب الصوف.

وقوله: بقيت الله قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه: الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن خير لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد : معناه: طاعة الله، وقال ابن عباس - أيضا- معناه: رزق الله، وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية، وإنما المعنى عندي- إبقاء الله عليكم إن أطعتم.

وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بتخفيف الياء وهي لغة. وقوله: إن كنتم مؤمنين شرط في أن تكون البقية خيرا لهم، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال، وجواب هذا الشرط، متقدم، و "الحفيظ" المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب، والمعنى:

إنما أنا مبلغ والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال.

التالي السابق


الخدمات العلمية