الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الآمدي: "الحجة الثالثة : أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته، لكان قابلا لها في الأزل ، وإلا كانت القابلية عارضة لذاته، واستدعت قابلية أخرى ، وهو تسلسل ممتنع ، وكون الشيء قابلا للشيء ، فرع إمكان وجود المقبول، فيستدعي تحقق كل واحد منهما، ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث في الأزل، وحدوث الحادث في الأزل ممتنع ، للتناقض بين كون الشيء أزليا وبين كونه حادثا" .

قال الآمدي: "ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته، لكان قابلا لها في الأزل ، فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيما لا يزال ، مع إمكانه القبول له أزلا، مع كونه غير ممكن أزلا ، والقول بأنه يلزم منه التسلسل ، يلزم عليه الإيجاد [ ص: 63 ] بالقدرة للمقدور ، وكون الرب خالقا للحوادث ، فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن، فما هو الجواب ههنا، به يكون الجواب . ثم وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلا، فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا، ولهذا على أصلنا الباري موصوف في الأزل بكونه قادرا على خلق العالم، ولا يلزم [منه] إمكان وجود العالم أزلا" .

قلت : قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين ، هما منع لكلتا مقدمتيها ، فإن مبناها على مقدمتين : إحداهما : أنه لو كان قابلا ، لكان القبول أزليا .

والثانية: أنه يمكن وجود المقبول مع القبول .

فيقال في الأولى: لا نسلم أنه إذا كان قابلا للحوادث في الأبد، يلزم قبولها في الأزل، لأن وجودها فيما لا يزال ممكنا، ووجودها في الأزل ممتنع ، فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع. وهذا كما يقال: إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال، أمكن حدوثها في الأزل .

وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات ، إذ لو كان من عوارضها، لكان للقبول قبول آخر ، ولزم التسلسل . [ ص: 64 ]

فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث ، فإنه عند من يمنع تسلسل الآثار من عوارض الذات لا من لوازمها ، فالقول في قبولها كالقول في فعله لها، إذ التسلسل في القابل كالتسلسل في الفاعل .

وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى ، وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم . وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم .

وأما المقدمة الثانية فيقال : لا نسلم أنه يلزم من ثبوت القبول في الأزل ، إمكان وجود المقبول في الأزل، بدليل أن القدرة ثابتة في الأزل ولا يمكن وجود المقدور في الأزل عند هذه الطوائف .

وهذا الجواب أيضا جواب لمن وافقه على ذلك. والنكتة في الجوابين : أن ما ذكروه في المقبول، ينتقض عليهم بالمقدور ، فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات ، لكن فارق غيره في المحل، فهذا مقدور في الذات ، وهذا مقدور منفصل عن الذات ، فإن قدرته قائمة بذاته، ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته، وإن كانت المخلوقات أيضا مقدورة عندهم ، فهذا المنفصل عندهم [ ص: 65 ] مقدور ، وفعله القائم بذاته مقدور ، وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل .

والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال : منهم من يقول: القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة [أهل] الحديث والكرامية وغيرهم .

ومنهم من يقول: القدرتان توجدان في غير محل المقدور ، كالجهمية والمعتزلة وغيرهم .

ومنهم من يقول: المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور ، والقديمة لا تكون في محل المقدور ، وهم الكلابية ومن وافقهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية