الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 97 ] فصل : وإذا جلس الحاكم في مجلسه ، فأول ما ينظر فيه أمر المحبوسين ; لأن الحبس عذاب ، وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه ، فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة ، يكتب اسم كل محبوس ، وفيم حبس ؟ ولمن حبس ؟ فيحمله إليه ، فيأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام : ألا إن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا ، فمن كان له محبوس فليحضر . فإذا حضر ذلك اليوم ، وحضر الناس ، ترك الرقاع التي فيها اسم المحبوسين بين يديه ، ومد يده إليها ، فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس ، وقال : من خصم فلان المحبوس .

                                                                                                                                            فإذا قال خصمه : أنا . بعث معه ثقة إلى الحبس ، فأخرج خصمه ، وحضر معه مجلس الحكم ، ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر فيه في ذلك المجلس ، ولا يخرج غيرهم ، فإذا حضر المحبوس وخصمه ، لم يسأل خصمه : لم حبسته ؟ لأن الظاهر أن الحاكم إنما حبسه بحق ، لكن يسأل المحبوس : بم حبست ؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام ; أحدها ، أن يقول : حبسني بحق له حال ، أنا مليء به . فيقول له الحاكم : اقضه ، وإلا رددتك في الحبس .

                                                                                                                                            الثاني ، أن يقول : له علي دين ، أنا معسر به . فيسأل خصمه ، فإن صدقه ، فلسه الحاكم وأطلقه . وإن كذبه ، نظر في سبب الدين ، فإن كان شيئا حصل له به مال ، كقرض أو شراء ، لم يقبل قوله في الإعسار إلا ببينة بأن ماله تلف أو نفد ، أو ببينة أنه معسر ، فيزول الأصل الذي ثبت ، ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال . وإن لم يثبت له أصل مال ، ولم تكن لخصمه بينة بذلك ، فالقول قول المحبوس مع يمينه أنه معسر ; لأن الأصل الإعسار .

                                                                                                                                            وإن شهدت لخصمه بينة بأن له مالا ، لم تقبل حتى تعين ذلك المال بما يتميز به ، فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها ، وصدقها ، فلا كلام ، وإن كذبها ، وقال : ليس هذا لي ، وإنما هو في يدي لغيري . لم يقبل إلا أن يقر به إلى واحد بعينه ، فإن كان الذي أقر له به حاضرا ، نظرت ، فإن كذبه في إقراره ، سقط ، وقضي من المال دينه ، وإن صدقه نظرت ، فإن كان له به بينة ، فهو أولى ; لأن له بينة ، وصاحب اليد يقر له به ، وإن لم تكن له بينة ، فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ، ويقضى الدين منه ; لأن البينة شهدت لصاحب اليد بالملك ، فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه ، فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه ، قبلت فيما تضمنته ; لأنه حق لغيره ; ولأنه متهم في إقراره لغيره ، لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ، ويعود إليه ، فتلحقه تهمة ، فلم تبطل البينة بقوله . وفيه وجه آخر ، يثبت الإقرار ، وتسقط البينة ; لأنها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره .

                                                                                                                                            الجواب الثالث ، أن يقول : حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ليبحث عن حال الشهود . فهذا ينبني على أصل ، وهو أن الحاكم هل له ذلك أو لا ؟ فيه وجهان ; أحدهما : ليس له ذلك ; لأن الحبس عذاب ، فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه . فعلى هذا لا يرده إلى الحبس إن صدقه خصمه في هذا . والثاني ، يجوز حبسه ; لأن المدعي قد أقام ما عليه ، وإنما بقي ما على الحاكم من البحث . ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ، فعلى هذا الوجه ، يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده .

                                                                                                                                            وإن كذبه خصمه ، وقال : بل قد عرف [ ص: 98 ] الحاكم عدالة شهودي ، وحكم عليه بالحق . فالقول قوله ; لأن الظاهر أن حبسه بحق . الجواب الرابع ، أن يقول : حبسني الحاكم بثمن كلب ، أو قيمة خمر أرقته لذمي ; لأنه كان يرى ذلك . فإن صدقه خصمه ، فذكر القاضي أنه يطلقه ; لأن غرم هذا ليس بواجب .

                                                                                                                                            وفيه وجه آخر ، أن الحاكم ينفذ حكم الحاكم الأول ; لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده . وفيه وجه آخر ، أنه يتوقف ويجتهد أن يصطلحا على شيء ; لأنه لا يمكنه فعل أحد الأمرين المتقدمين . وللشافعي قولان ، كهذين الوجهين الأخيرين . وإن كذبه خصمه ، وقال : بل حبست بحق واجب غير هذا . فالقول قوله ; لأن الظاهر حبسه بحق .

                                                                                                                                            الجواب الخامس ، أن يقول : حبست ظلما ، ولا حق علي . فينادي منادي الحاكم بذكر ما قاله ، فإن حضر رجل فقال : أنا خصمه . فأنكره ، وكانت للمدعي بينة كلف الجواب على ما مضى ، وإن لم تكن له بينة ، أو لم يظهر له خصم ، فالقول قوله مع يمينه أنه لا خصم له ، أو لا حق عليه ، ويخلى سبيله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية