الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ بوأ ]

                                                          بوأ : باء إلى الشيء يبوء بوءا : رجع . وبؤت إليه وأبأته ، عن ثعلب ، وبؤته عن الكسائي كأبأته ، وهي قليلة . والباءة مثل الباعة ، والباء : النكاح . وسمي النكاح باءة وباء من المباءة لأن الرجل يتبوأ من أهله أي يستمكن من أهله ، كما يتبوأ من داره . قال الراجز يصف الحمار والأتن :


                                                          يعرس أبكارا بها وعنسا أكرم عرس ، باءة ، إذ أعرسا .



                                                          وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أراد بالباءة النكاح والتزويج . ويقال : فلان حريص على الباءة أي على النكاح . ويقال : الجماع نفسه باءة ، والأصل في الباءة المنزل ثم قيل لعقد التزويج باءة لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا . والهاء في الباءة زائدة ، والناس يقولون : الباه . قال ابن الأعرابي : الباء والباءة والباه كلها مقولات . ابن الأنباري : الباء النكاح ، يقال : فلان حريص على الباء والباءة والباه ، بالهاء والقصر ، أي على النكاح ، والباءة الواحدة ، [ ص: 175 ] والباء الجمع ، وتجمع الباءة على الباءات . قال الشاعر :


                                                          يا أيها الراكب ، ذو الثبات     إن كنت تبغي صاحب الباءات
                                                          فاعمد إلى هاتيكم الأبيات .



                                                          وفي الحديث : عليكم بالباءة ، يعني النكاح والتزويج ، ومنه الحديث الآخر : إن امرأة مات عنها زوجها فمر بها رجل وقد تزينت للباءة . وبوأ الرجل : نكح . قال جرير :


                                                          تبوئها بمحنية ، وحينا     تبادر حد درتها السقابا .



                                                          وللبئر مباءتان : إحداهما مرجع الماء إلى جمها ، والأخرى موضع وقوف سائق السانية . وقول صخر الغي يمدح سيفا له :


                                                          وصارم أخلصت خشيبته     أبيض مهو ، في متنه ربد
                                                          فلوت عنه سيوف أريح     حتى باء كفي ، ولم أكد أجد .



                                                          الخشيبة : الطبع الأول قبل أن يصقل ويهيأ ، وفلوت : انتقيت . أريح : من اليمن . باء كفي : أي صار كفي له مباءة أي مرجعا . وباء بذنبه وبإثمه يبوء بوءا وبواء : احتمله وصار المذنب مأوى الذنب ، وقيل : اعترف به . وقوله تعالى : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ; قال ثعلب : معناه إن عزمت على قتلي كان الإثم بك لا بي . قال الأخفش : وباءوا بغضب من الله ; رجعوا به أي صار عليهم . وقال أبو إسحاق في قوله تعالى : فباءوا بغضب على غضب ; قال : باءوا في اللغة : احتملوا ، يقال : قد بؤت بهذا الذنب أي احتملته . وقيل : باءوا بغضب أي بإثم استحقوا به النار على إثم استحقوا به النار أيضا . قال الأصمعي : باء بإثمه ، فهو يبوء به بوءا : إذا أقر به . وفي الحديث : أبوء بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع وأقر . وأصل البواء اللزوم . وفي الحديث : فقد باء به أحدهما أي التزمه ورجع به . وفي حديث وائل بن حجر : إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه أي كان عليه عقوبة ذنبه وعقوبة قتل صاحبه ، فأضاف الإثم إلى صاحبه لأن قتله سبب لإثمه ، وفي رواية : إن قتله كان مثله أي في حكم البواء وصارا متساويين لا فضل للمقتص إذا استوفى حقه على المقتص منه ، وفي حديث آخر : بؤ للأمير بذنبك أي اعترف به . وباء بدم فلان وبحقه : أقر ، وذا يكون أبدا بما عليه لا له . قال لبيد :


                                                          أنكرت باطلها وبؤت بحقها     عندي ، ولم تفخر علي كرامها .



                                                          وأبأته : قررته . وباء دمه بدمه بوءا وبواء : عدله . وباء فلان بفلان بواء ، ممدود ، وأباءه وباوأه : إذا قتل به وصار دمه بدمه . قال عبد الله بن الزبير :


                                                          قضى الله أن النفس بالنفس بيننا     ولم نك نرضى أن نباوئكم قبل .



                                                          والبواء : السواء . وفلان بواء فلان : أي كفؤه إن قتل به ، وكذلك الاثنان والجميع . وباءه : قتله به . أبو بكر البواء : التكافؤ ، يقال : ما فلان ببواء لفلان : أي ما هو بكفء له . وقال أبو عبيدة يقال : القوم بواء : أي سواء . ويقال : القوم على بواء . وقسم المال بينهم على بواء : أي على سواء . وأبأت فلانا بفلان : قتلته به . ويقال : هم بواء في هذا الأمر : أي أكفاء نظراء ، ويقال : دم فلان بواء لدم فلان : إذا كان كفئا له . قالت ليلى الأخيلية في مقتل توبة بن الحمير :


                                                          فإن تكن القتلى بواء ، فإنكم     فتى ما قتلتم ، آل عوف بن عامر .



                                                          وأبأت القاتل بالقتيل واستبأته أيضا : إذا قتلته به . واستبأت الحكم واستبأت به كلاهما : استقدته . وتباوأ القتيلان : تعادلا . وفي الحديث : أنه كان بين حيين من العرب قتال ، وكان لأحد الحيين طول على الآخر ، فقالوا : لا نرضى حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة الرجل ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتباءوا . قال أبو عبيدة : هكذا روي لنا بوزن يتباعوا ، قال : والصواب عندنا أن يتباوءوا بوزن يتباوعوا على مثال يتقاولوا ، من البواء وهي المساواة ، يقال : باوأت بين القتلى : أي ساويت ، قال ابن بري : يجوز أن يكون يتباءوا على القلب كما قالوا جاءاني ، والقياس جايأني في المفاعلة من جاءني وجئته ، قال ابن الأثير وقيل : يتباءوا صحيح . يقال : باء به إذا كان كفئا له ، وهم بواء أي أكفاء ، معناه ذوو بواء ، وفي الحديث أنه قال : الجراحات بواء يعني أنها متساوية في القصاص ، وأنه لا يقتص للمجروح إلا من جارحه الجاني ، ولا يؤخذ إلا مثل جراحته سواء وما يساويها في الجرح ، وذلك البواء . وفي حديث الصادق قيل له : ما بال العقرب مغتاظة على بني آدم ؟ فقال : تريد البواء أي تؤذي كما تؤذى . وفي حديث علي - رضي الله عنه - : فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء . وباء فلان بفلان : إذا كان كفئا له يقتل به ، ومنه قول المهلهل لابن الحارث بن عباد حين قتله : بؤ بشسع نعلي كليب ، معناه : كن كفئا لشسع نعليه . وباء الرجل بصاحبه إذا قتل به . يقال باءت عرار بكحل ، وهما بقرتان قتلت إحداهما بالأخرى ، ويقال : بؤ به ، أي كن ممن يقتل به ; وأنشد الأحمر لرجل قتل قاتل أخيه فقال :


                                                          فقلت له بؤ بامرئ لست مثله     وإن كنت قنعانا لمن يطلب الدما .



                                                          يقول : أنت وإن كنت في حسبك مقنعا لكل من طلبك بثأر ، فلست مثل أخي . وإذا أقص السلطان رجلا برجل قيل : أباء فلانا بفلان . قال طفيل الغنوي :


                                                          أباء بقتلانا من القوم ضعفهم     وما لا يعد من أسير مكلب .



                                                          قال أبو عبيد : فإن قتله السلطان بقود قيل : قد أقاد السلطان فلانا وأقصه وأباءه وأصبره . وقد أبأته أبيئه إباءة . قال ابن السكيت في قول زهير بن أبي سلمى :


                                                          فلم أر معشرا أسروا هديا     ولم أر جار بيت يستباء .



                                                          [ ص: 176 ] قال : الهدي ذو الحرمة ، وقوله : يستباء ، أي يتبوأ ، تتخذ امرأته أهلا ، وقال أبو عمرو الشيباني : يستباء من البواء ، وهو القود . وذلك أنه أتاهم يريد أن يستجير بهم فأخذوه ، فقتلوه برجل منهم . وقول التغلبي :


                                                          ألا تنتهي عنا ملوك ، وتتقي     محارمنا لا يبأء الدم بالدم .



                                                          أراد : حذار أن يباء الدم بالدم ، ويروى : لا يبؤء الدم بالدم أي حذار أن تبوء دماؤهم بدماء من قتلوه . وبوأ الرمح نحوه : قابله به ، وسدده نحوه . وفي الحديث : أن رجلا بوأ رجلا برمحه ، أي سدده قبله وهيأه . وبوأهم منزلا : نزل بهم إلى سند جبل . وأبأت بالمكان : أقمت به . وبوأتك بيتا : اتخذت لك بيتا . وقوله - عز وجل - : أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا ; أي اتخذا . أبو زيد : أبأت القوم منزلا وبوأتهم منزلا تبويئا ، وذلك إذا نزلت بهم إلى سند جبل أو قبل نهر . والتبوؤ : أن يعلم الرجل الرجل على المكان إذا أعجبه لينزله . وقيل : تبوأه : أصلحه وهيأه . وقيل : تبوأ فلان منزلا : إذا نظر إلى أسهل ما يرى وأشده استواء وأمكنه لمبيته ، فاتخذه ، وتبوأ : نزل وأقام ، والمعنيان قريبان . والمباءة معطن القوم للإبل ، حيث تناخ في الموارد . وفي الحديث : قال له رجل : أصلي في مباءة الغنم ؟ قال : نعم ، أي منزلها الذي تأوي إليه ، وهو المتبوأ أيضا . وفي الحديث أنه قال : في المدينة ههنا المتبوأ . وأباءه منزلا وبوأه إياه وبوأه فيه ، بمعنى هيأه له وأنزله ومكن له فيه . قال :


                                                          وبوئت في صميم معشرها     وتم في قومها ، مبوؤها .



                                                          أي نزلت من الكرم في صميم النسب . والاسم البيئة . واستباءه أي اتخذه مباءة . وتبوأت منزلا أي نزلته . وقوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان ; جعل الإيمان محلا لهم على المثل ، وقد يكون أراد : وتبوأوا مكان الإيمان وبلد الإيمان ، فحذف . وتبوأ المكان : حله . وإنه لحسن البيئة أي هيئة التبوء . والبيئة والباءة والمباءة : المنزل ، وقيل منزل القوم حيث يتبوأون من قبل واد أو سند جبل . وفي الصحاح : المباءة : منزل القوم في كل موضع ، ويقال : كل منزل ينزله القوم . قال طرفة :


                                                          طيبو الباءة ، سهل ، ولهم     سبل ، إن شئت في وحش وعر .



                                                          وتبوأ فلان منزلا ، أي اتخذه ، وبوأته منزلا وأبأت القوم منزلا . وقال الفراء في قوله - عز وجل - : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا ; يقال : بوأته منزلا ، وأثويته منزلا ثواء : أنزلته وبوأته منزلا أي جعلته ذا منزل . وفي الحديث : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ، وتكررت هذه اللفظة في الحديث ومعناها : لينزل منزله من النار . يقال : بوأه الله منزلا أي أسكنه إياه . ويسمى كناس الثور الوحشي مباءة ، ومباءة الإبل : معطنها . وأبأت الإبل مباءة : أنخت بعضها إلى بعض . قال الشاعر :


                                                          حليفان ، بينهما ميرة     يبيئان في عطن ضيق .



                                                          وأبأت الإبل ، رددتها إلى المباءة ، والمباءة : بيتها في الجبل ، وفي التهذيب : وهو المراح الذي تبيت فيه . والمباءة من الرحم : حيث تبوأ الولد ، قال الأعلم :


                                                          ولعمر محبلك الهجين على     رحب المباءة ، منتن الجرم .



                                                          وباءت ببيئة سوء ، على مثال بيعة أي بحال سوء ، وإنه لحسن البيئة ، وعم بعضهم به جميع الحال . وأباء عليه ماله : أراحه . تقول . أبأت على فلان ماله : إذا أرحت عليه إبله وغنمه وأباء منه . وتقول العرب : كلمناهم ، فأجابونا عن بواء واحد : أي جواب واحد . وفي أرض كذا فلاة تبيء في فلاة . أي تذهب . الفراء : باء ، بوزن باع : إذا تكبر ، كأنه مقلوب من بأى ، كما قالوا أرى ورأى ، وسنذكره في بابه . وفي حاشية بعض نسخ الصحاح : وأبأت أديمها : جعلته في الدباغ .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية