الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8247 ) مسألة ، قال ( وإذا شهد عنده من لا يعرفه ، سأل عنه ، فإن عدله اثنان ، قبل شهادته ) وجملته أنه إذا شهد عند الحاكم شاهدان ، فإن عرفهما عدلين ، حكم بشهادتهما ، وإن عرفهما فاسقين ، لم يقبل قولهما ، وإن لم يعرفهما ، سأل عنهما ; لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق .

                                                                                                                                            وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ، ومحمد . وعن أحمد رواية أخرى : يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما ، بظاهر الحال ، إلا أن يقول الخصم : هما فاسقان . وهذا قول الحسن والمال والحد في هذا سواء ; لأن الظاهر من المسلمين العدالة ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه : المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي { ، أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال ، فقال له النبي : صلى الله عليه وسلم أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ . فقال : نعم . فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ . قال : نعم . فصام ، وأمر الناس بالصيام } .

                                                                                                                                            ولأن العدالة أمر خفي ، سببها الخوف من الله - تعالى ، ودليل ذلك الإسلام ، فإذا وجد ، فليكتف به ، ما لم يقم على خلافه دليل . وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى ، وفي سائر الحقوق كالثانية ; لأن الحدود والقصاص مما يحتاط لها وتندرئ بالشبهات ، بخلاف غيرها ولنا ، أن العدالة شرط ، فوجب العلم بها كالإسلام ، أو كما لو طعن الخصم فيهما .

                                                                                                                                            فأما الأعرابي المسلم ، فإنه كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله - تعالى - عليهم ، فإن من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثارا لدين الإسلام ، وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته .

                                                                                                                                            وأما قول عمر ، فالمراد به أن الظاهر العدالة ، ولا يمنع ذلك وجوب البحث ، ومعرفة حقيقة العدالة ، فقد روي [ ص: 109 ] عنه ، أنه أتي بشاهدين ، فقال لهما عمر : لست أعرفكما ، ولا يضركما إن لم أعرفكما ، جيئا بمن يعرفكما . فأتيا برجل ، فقال له عمر : تعرفهما ؟ فقال : نعم . فقال عمر : صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس ؟ قال : لا . قال : عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم ؟ قال : لا . قال : كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما ؟ قال لا . قال : يا ابن أخي ، لست تعرفهما ، جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفي بدونه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط ; الإسلام والبلوغ ، والعقل ، والعدالة ، وليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة ، فيحتاج إلى البحث عنها ; لقول الله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } . ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه ، أو نخبر عنه ، فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم ، وكناهم ، ونسبهم ، ويرفعون فيها بما يتميزون به عن غيرهم ، ويكتب صنائعهم ، ومعايشهم ، وموضع مساكنهم ، وصلاتهم ; ليسأل عن جيرانهم ، وأهل سوقهم ومسجدهم ، ومحلتهم ، ونحلتهم ، فيكتب : أسود أو أبيض ، أو أنزع أو أغم ، أوأشهل أو أكحل ، أقنى الأنف أو أفطس ، أو رقيق الشفتين أو غليظهما ، طويل أو قصير أو ربعة ، ونحو هذا ، ليتميز ، ولا يقع اسم على اسم ، ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه ، وقدر الحق ، ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله ، لكل واحد رقعة .

                                                                                                                                            وإنما ذكرنا المشهود له ، لئلا يكون بينه وبين الشاهد قرابة تمنع الشهادة ، أو شركة ، وذكرنا اسم المشهود عليه ; لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة ، وذكرنا قدر الحق ; لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير ، فتطيب نفس المزكى به إذا كان يسيرا ، ولا تطيب إذا كان كثيرا . وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع ; لئلا يتواطئوا . وإن شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه ، من جوار الشاهد ، وأهل الخبرة به ، وإن شاء أطلق ، ولم يعين المسئول ، ويكون السؤال سرا ; لئلا يكون فيه هتك المسئول عنه ، وربما يخاف المسئول من الشاهد أو من المشهود له أو المشهود عليه أن يخبر بما عنده ، أو يستحيي .

                                                                                                                                            وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين له ; لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة ، وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ، ذوي عقول وافرة ، أبرياء من الشحناء والبغض ; لئلا يطعنوا في الشهود ، أو يسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه ، فيضيع حق المشهود له ، ولا يكونون من أهل الأهواء والعصبية ، يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ، ويكونون أمناء ثقات ; لأن هذا موضع أمانة .

                                                                                                                                            فإذا رجع أصحاب مسائله ، فأخبر اثنان بالعدالة ، قبل شهادته ، وإن أخبرا بالجرح ، رد شهادته ، وإن أخبر أحدهما بالعدالة ، والآخر بالجرح ، بعث آخرين ، فإن عادا فأخبرا بالتعديل ، تمت بينة التعديل ، وسقط الجرح ; لأن بينته لم تتم ، وإن أخبرا بالجرح ، ثبت ورد الشهادة ، وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل ، تمت البينتان ، ويقدم الجرح ، ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين ، ويقبل قول أصحاب المسائل .

                                                                                                                                            وقيل : لا يقبل إلا شهادة المسئولين ، ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا [ ص: 110 ] بالتزكية والجرح عنده ، على شروط الشهادة في اللفظ وغيره ، ولا تقبل من صاحب المسألة ; لأن ذلك شهادة على شهادة ، مع حضور شهود الأصل .

                                                                                                                                            ووجه القول الأول ، أن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة ، لا شهادة على شهادة ، فيكتفي بمن يشهد بها ، كسائر شهادات الاستفاضة ; ولأنه موضع حاجة فلا يلزم المزكي الحضور للتزكية ، وليس للحاكم إجباره عليها ، فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ، ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل ، لتعذرت التزكية ; لأنه قد يتفق أن لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه الحاكم ، فلا يقبل قوله ، فيفوت التعديل والجرح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية