الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 842 ] (9 ) يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالأمم المكذبة حين جاءتهم الرسل فكذبوهم ، فعاقبهم بالعقاب العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود : وقد ذكر الله قصصهم في كتابه وبسطها ، والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله : من كثرتهم وكون أخبارهم اندرست ؛ فهؤلاء كلهم جاءتهم رسلهم بالبينات أي : بالأدلة الدالة على صدق ما جاءوا به ، فلم يرسل الله رسولا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ؛ فحين أتتهم رسلهم بالبينات ؛ لم ينقادوا لها ، بل استكبروا عنها ، فردوا أيديهم في أفواههم أي : لم يؤمنوا بما جاءوا به ، ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان ؛ كقوله : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . وقالوا صريحا لرسلهم : إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب أي : موقع في الريبة .

                                                                                                                                                                                                                                        (10 ) وقد كذبوا في ذلك وظلموا ، ولهذا قالت لهم رسلهم أفي الله شك أي : فإنه أظهر الأشياء وأجلاها ؛ فمن شك في الله فاطر السماوات والأرض : الذي وجود الأشياء مستند إلى وجوده ؛ لم يكن عنده ثقة بشيء من المعلومات ، حتى الأمور المحسوسة . ولهذا خاطبتهم الرسل خطاب من لا يشك فيه ، ولا يصلح الريب فيه يدعوكم : إلى منافعكم ومصالحكم ، ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى أي : ليثيبكم على الاستجابة لدعوته بالثواب العاجل والآجل ، فلم يدعكم لينتفع بعبادتكم ، بل النفع عائد إليكم . فردوا على رسلهم رد السفهاء الجاهلين وقالوا لهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا أي : فكيف تفضلوننا بالنبوة والرسالة ؟ تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا : فكيف نترك رأي الآباء وسيرتهم لرأيكم ؟ ! وكيف نطيعكم وأنتم بشر مثلنا ؟ فأتونا بسلطان مبين أي : بحجة وبينة ظاهرة ، ومرادهم بينة يقترحونها هم ، وإلا فقد تقدم أن رسلهم جاءتهم بالبينات .

                                                                                                                                                                                                                                        (11 قالت لهم رسلهم مجيبين لاقتراحهم واعتراضهم : إن نحن إلا بشر مثلكم أي : صحيح وحقيقة أنا بشر مثلكم ، ولكن ليس في ذلك ما يدفع ما جئنا به من الحق ؛ فإن الله يمن على من يشاء من عباده ؛ فإذا من الله علينا بوحيه ورسالته ، فذلك فضله وإحسانه ، وليس لأحد أن يحجر على الله فضله [ ص: 843 ] ويمنعه من تفضله ؛ فانظروا ما جئناكم به فإن كان حقا فاقبلوه ، وإن كان غير ذلك ؛ فردوه ولا تجعلوا حالنا حجة لكم على رد ما جئناكم به ، وقولكم : فأتونا بسلطان مبين ؛ فإن هذا ليس بأيدينا وليس لنا من الأمر شيء . وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله : فهو الذي إن شاء جاءكم به ، وإن شاء لم يأتكم به ، وهو لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته ورحمته ، وعلى الله : لا على غيره فليتوكل المؤمنون : فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم ودفع مضارهم ؛ لعلمهم بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم إحسانه ، ويثقون به في تيسير ذلك وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم . فعلم بهذا وجوب التوكل ، وأنه من لوازم الإيمان ، ومن العبادات الكبار التي يحبها الله ويرضاها ، لتوقف سائر العبادات عليه .

                                                                                                                                                                                                                                        (12 وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ؛ أي : أي شيء يمنعنا من التوكل على الله والحال أننا على الحق والهدى ، ومن كان على الحق والهدى ؛ فإن هداه يوجب له تمام التوكل ، وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته ، يدعو إلى ذلك ؛ بخلاف من لم يكن على الحق والهدى ؛ فإنه ليس ضامنا على الله؛ فإن حاله مناقضة لحال المتوكل ؟ ! وفي هذا كالإشارة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم بآية عظيمة ، وهو أن قومهم -في الغالب- لهم القهر والغلبة عليهم ، فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله في دفع كيدهم ومكرهم ، وجازمون بكفايته إياهم ، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم وإطفاء ما معهم من الحق ، فيكون هذا كقول نوح لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                        وقول هود عليه السلام: قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . ولنصبرن على ما آذيتمونا أي ولنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم ، ولا نبالي بما يأتينا منكم من الأذى ؛ فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى احتسابا للأجر ونصحا لكم لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير . وعلى الله : وحده لا على غيره فليتوكل المتوكلون : فإن التوكل عليه مفتاح لكل خير .

                                                                                                                                                                                                                                        واعلم أن الرسل عليهم الصلاة والسلام توكلهم في أعلى المطالب وأشرف [ ص: 844 ] المراتب وهو التوكل على الله في إقامة دينه ونصره وهداية عبيده وإزالة الضلال عنهم . وهذا أكمل ما يكون من التوكل .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية