الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 535 ] 722 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أيوب نبي الله عليه السلام : تعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، فيذكران الله عز وجل ، فأرجع إلى بيتي ، فأكفر عنهما كراهة أن يذكرا الله إلا في حق

4593 - حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله ، لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله ، فيكشف ما به ، فلما راحا إليه ، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب صلوات الله عليه : لا أدري ما تقول غير أن الله قد رآني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، فيذكران الله تعالى ، فأرجع [ ص: 536 ] إلى بيتي ، فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق ، وكان يخرج في حاجته ، فإذا قضاها ، أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، فأوحى الله تعالى إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب [ ص : 42 ] ، واستبطأته فتلقته تنظر ، وأقبل عليها قد أذهب الله تعالى جده ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ؟ والله على ذلك ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا ، قال : فإني أنا هو ، وكان له أندران : أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله تعالى سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه القمح ذهبا حتى فاض ، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض " .

4594 - وحدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد ، أخبرني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال [ ص: 537 ] مكان " يتنازعان " : يتراغمان " .

4595 - وحدثنا يزيد قال : حدثنا أبو صالح ، عن نافع ، ثم ذكر بإسناده مثله .

4596 - قال أبو جعفر : فسألت أنا إبراهيم بن أبي داود عن هذا الحديث ، وقلت له : هل رواه عن عقيل غير نافع بن يزيد ؟ قال : نعم ، حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر فيه أنس بن مالك .

[ ص: 538 ] قال أبو جعفر : فتأملنا ما في هذا الحديث من قول أيوب عليه السلام للرجل الذي قال له ما قال : والله ما أدري ما تقول غير أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل ، فأرجع إلى بيتي ، فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق ، فكان محالا أن يكون ما كان منه صلى الله عليه وسلم في ذلك كفارة عن يمين كانت منهما أو من أحدهما ، لأنه لا يجوز أن يكفر عن حالف بيمين غيره بعد حنثه فيها ، ولا قبل حنثه فيها وهو حي ، ولكنه عندنا - والله أعلم - على كفارة عن الكلام الذي ذكر الله عز وجل فيه مما لم يكن يصلح أن يذكر ، ثم عدنا إلى الكفارات عن الأشياء ما هي ؟ فرأيناها هي التغطية لما كفرت به عنه ، وكانت التغطية للأشياء قد يكون منها فناء تلك الأشياء ، كمثل ما يبذره الناس في أرضهم ، يزرعونه فيها ، فيغطونه بما يلقون عليه من الطين ، فسموا بذلك كفارا لتغطيتهم إياه ، ومنه قول الله تعالى : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، يعني الزراع له ، لا الكفار بالله تعالى ، ولا يكون نباته إلا بعد فناء ما كان زرع في مكانه ، وقد يكون مع ذلك بقاؤهما وظهورهما بعد ذلك ، كمثل ما قيل :

في ليلة كفر النجوم غمامها

[ ص: 539 ] أي : غطى نجومها التي قد ظهرت . وكان أحسن ما حضرنا في تأويل ما قال أيوب صلوات الله عليه مما ذكر عنه في هذا الحديث : أنه لما كان من خطاب ذينك الرجلين ما كان مما خلطا ذكر الله بما لا يصلح ذكره عز وجل فيه ، كان ذلك خطيئة قد ظهرت ، وما ظهر من الخطايا فلم تغير ، عذب الله تعالى عليه الخاصة والعامة .

4597 - كما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عمرو بن أبي رزين ، حدثنا سيف بن أبي سليمان المكي ، عن عدي بن عدي - قال أبو جعفر : وهو ابن عميرة - عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا يهلك العامة بعمل الخاصة ، ولكن إذا رأوا المنكر بين ظهرانيهم فلم يغيروا ، عذب الله تعالى العامة والخاصة " .

[ ص: 540 ] قال أبو جعفر : فلما عاد ما كان من ذينك الرجلين إلى ما يؤخذ به العامة ، تلافاه أيوب بما يدفع وقوع عذاب الله من الصدقة التي تكفر الذنوب وتدفع العقوبات من غير أن يكون ذينك الرجلين قد كانت لهما في ذلك كفارة ، فكانت تلك الكفارة تغطي تلك المعصية تغطية فيها فناؤها ، وإن كان الرجلان اللذان اكتسباها لم يدخلا في ذلك ، ومثل ذلك قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ الأنفال : 33 ] ، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أنه يرفع العذاب عنهم ، وإن كانوا يستحقونه ، باستغفارهم إياه ، وكان ذلك الاستغفار - والله أعلم - مما يقع في القلوب أنه لم يكن كان من جميعهم ، ولكنه كان من بعضهم ، فرفعت به العقوبة عمن كانت منه تلك المعاصي ، وعمن لم تكن منه ، فهذا أحسن ما حضرنا من المعاني التي يحتملها ما قد ذكرناه عن أيوب عليه السلام ، والله أعلم بالحقيقة كانت في ذلك ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية