الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 19 ] قوله عز وجل:

فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ

قوله تعالى: الذين شقوا -على بعض التأويلات في الاستثناء الذي في آخر الآية -يراد به كل من يعذب من كافر وعاص، وعلى بعضها- كل من يخلد، وذلك لا يكون إلا في الكفرة خاصة.

والزفير: صوت شديد خاص بالمحزون أو الوجع أو المعذب ونحوه، والشهيق كذلك، كما يفعل الباكي الذي يصيح خلال بكائه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الزفير: صوت حاد. و الشهيق: صوت ثقيل، وقال أبو العالية : الزفير من الصدر، و الشهيق من الحلق، وقيل: بالعكس، وقال قتادة : الزفير: أول صوت الحمار، و الشهيق: آخره، فصياح أهل النار كذلك، وقيل: الزفير: مأخوذ من الزفر وهو الشدة، و الشهيق: من قولهم: جبل شاهق أي عال، فهما -على هذا المعنى- واحد أو متقارب، والظاهر ما قال أبو العالية ، فإن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف، والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفع معها النفس أحيانا، فقد يشهق المحتضر ويشهق المغشي عليه.

وأما قوله: ما دامت السماوات والأرض فقيل: معناه أن الله تبارك وتعالى يبدل السموات والأرض يوم القيامة، ويجعل الأرض مكانا لجهنم والسماء مكانا للجنة، ويتأبد ذلك، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه، ويروى عن ابن عباس أنه قال: إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة، فلهما ثم بقاء دائم". وقيل: معنى قوله: ما دامت السماوات والأرض العبارة عن [ ص: 20 ] التأبيد: بما تعهده العرب ، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول: "لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض"، ونحو هذا مما يريدون به طولا من غير نهاية، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك، وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض.

وأما قوله: إلا ما شاء ربك فقيل فيه: إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط، كأنه قال: "إن شاء الله"، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع، ويؤيد هذا قوله تعالى: عطاء غير مجذوذ ، وقيل: هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها، فهم -على هذا- يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قول مختل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمي الكل به تجوزا.

وقيل: إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، فيجيء قوله تعالى: إلا ما شاء ربك أي: لقوم ما، وهذا قول قتادة ، والضحاك ، وأبي سنان ، وغيرهم، وعلى هذا فيكون قوله: فأما الذين شقوا عاما في الكفرة والعصاة كما قدمنا، ويكون الاستثناء من خالدين ، وقيل: "إلا" بمعنى الواو، فمعنى الآية: "وما شاء الله زائدا على ذلك"، ونحو هذا قول الشاعر:

[ ص: 21 ]

وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان



قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم، وأما إن كان قائله من دهرية العرب فلا حجة فيه، إذ يرى ذلك مؤبدا فأجرى "إلا" على بابها.

وقيل: "إلا" في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع، كما تقول: "لي عندك ألفا درهم، إلا الألف التي كنت أسلفتك " ، بمعنى: سوى تلك، فكأنه قال: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء الله زائدا على ذلك"، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد: عطاء غير مجذوذ ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب "سوى"، وسيبويه يقدره بـ "لكن"، وقيل: "سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه"، وقيل: استثناء من مدة السماوات والأرض، المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا، وقيل: في البرزخ بين الدنيا والآخرة، وقيل: في المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولهم إنما هو زمرا بعد زمر، وقيل: الاستثناء من قوله: ففي النار ، كأنه قال: "إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك"، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري، ثم أخبر منبها على قدرة الله تعالى بقوله: إن ربك فعال لما يريد .

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو، وابن عامر ، وعاصم -في رواية أبي بكر- "سعدوا" بفتح السين، وهو فعل لا يتعدى، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في [ ص: 22 ] رواية حفص-: "سعدوا" بضم السين، وهي شاذة ولا حجة في قولهم: "مسعود"، لأنه مفعول من أسعد على حذف الزيادة، كما يقال: محبوب، من أحب، ومجنون من أجنه الله، وقد قيل في مسعود: إنما أصله الوصف للمكان، يقال: مكان مسعود فيه ثم نقل إلى التسمية به، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول: سعده الله، بمعنى: أسعده، وبضم السين قرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرف ، وابن وثاب ، والأعمش .

والأقوال المترتبة في استثناء التي قبل هذه تترتب هاهنا إلا تأويل من قال: "هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم"، فإنه لا يترتب مثله في هذه الآية، ويزيد هنا قول أن يكون الاستثناء في المدة التي يقيمها العصاة في النار، ولا يترتب أيضا تأويل من قال في تلك: إن الاستثناء هو من قوله تعالى: ففي النار .

وقوله: عطاء غير مجذوذ ، نصب على المصدر، و المجذوذ: المقطوع، والجذ: القطع، وكذلك الجد، وكذلك (الحز) .

التالي السابق


الخدمات العلمية