الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إجماع علماء المذاهب الأربعة على كفر من يدعو غير الله

وبطلان النذور والذبائح للأضرحة

وقال شيخ الإسلام تقي الدين في "الإقناع": إن من دعا ميتا، وإن كان من الخلفاء الراشدين، فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر، وقال أبو الوفا ابن عقيل في "الفنون": لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع; مثل: تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي! افعل لي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى.

وقال ابن القيم -رحمه الله- في "إغاثة اللهفان" في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم كتابا سماه: "مناسك المشاهد" ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام. انتهى

وهذا الذي أشار إليه هو ابن المفيد.

وقال في "النهر الفائق": اعلم أن الشيخ قاسما قال في "شرح درر البحار": إن النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان! إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، فلك من الذهب، أو من الفضة أو الشمع، أو الزيت كذا، باطل إجماعا; لوجوه، إلى أن قال: ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر. انتهى.

[ ص: 90 ] وهذا القائل هو من أئمة الحنفية، وتأمل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النذر المذكور، وأنه كفر عنده، مع ذلك الاعتقاد.

وقال صاحب "الروض": إن المسلم إذا ذبح للنبي -صلى الله عليه وسلم- كفر. انتهى. وهذا القائل من الشافعية.

وإذا كان الذبح لسيد الرسل -صلى الله عليه وسلم- كفرا عنده، فكيف بالذبح لسائر الأموات؟!!

وقال ابن حجر في "شرح الأربعين" له: من دعا غير الله فهو كافر. انتهى.

وقال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله تعالى- في "الرسالة السنية": إن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، وأنا في حبسك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلا قتل.

فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إلها آخر.

والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى) ، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة.

وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب [الإسراء: 56- 57] الآية.

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة.

[ ص: 91 ] ثم قال في ذلك الكتاب: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.

قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36] وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء: 20].

وكان -صلى الله عليه وسلم- يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده".

ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: "من حلف بغير الله، فقد أشرك".

وقال -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا".

وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم; فإن صلاتكم تبلغني".

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها.

وذلك لأن من أكثر الأسباب لعبادة الأوثان كان تعظيم القبور.

ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي عند قبره أنه لا يتمرغ بحجرته، ولا يقبلها; لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

كل هذا تحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [النساء: 48].

[ ص: 92 ] ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم .

وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

و"الإله" هو الذي يألهه القلب: عبادة له، واستغاثة به، ورجاء له، وخشية وإجلالا. انتهى.

وقال أيضا شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية -رحمه الله- في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" في الكلام على قوله: وما أهل به لغير الله [البقرة: 173] وأن ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ.

وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله.

فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله.

فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: "باسم الله" كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة.

وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن تجتمع في الذبيحة مانعات، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح.

التالي السابق


الخدمات العلمية