الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الآمدي: "والمعتمد في المسألة حجتان: تقريرية وإلزامية . [ ص: 83 ] أما التقريرية فهو أن يقال: لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فإما أن يوجب نقصا في ذاته أو في صفة من صفاته ، أو لا يوجب شيئا من ذلك ، فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل، وإن كان الثاني فإما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال ، لا جائز أن يقال بالأول، وإلا كان الرب تعالى ناقصا قبل اتصافه بها، وهو محال أيضا بالاتفاق. ولا جائز أن يقال بالثاني لوجهين: اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال . والثاني أن وجود كل شيء أشرف من عدمها ، فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب نقصا في ذاته، ولا في صفة [ ص: 84 ] من صفاته، على ما وقع به الفرض، فاتصافه إذا بما هو في نفسه كمال، لا عدم كمال، ولو كان كذلك لكان ناقصا اتصافه بها، وهو محال كما سبق" .

قلت : فهذا عمدته، وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين ، وهي من أضعف الحجج ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .

وبيان ذلك من وجوه : أحدها : أن عمدته في ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية ، فلا تكون المسألة عقلية ، ولا ثابتة بنص ، بل بالإجماع المدعى، ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية ، فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل؟

وإذا كانت هذه المسألة مبنية على مقدمة إجماعية لم يكن العلم بها قبل العلم بالسمع ، لأن الإجماع دليل سمعي ، وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق .

قالوا : لأنه لو خلقه في ذاته لكان محلا للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته، وإرادات حادثة بذاته ، وغير ذلك، فلا يكون شيء من هذه المسائل من المسائل العقلية . وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التي يتوقف [ ص: 85 ] صحة السمع عليها بطريق الأولى، وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها ، ويقال: قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقلية ، فليس هنا عقلي : لا قاطع ولا غير قاطع ، بل غاية ما هنا دعوى المدعي للإجماع .

وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج في إثبات الاستواء والنزول ، والمجيء والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة، ادعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع ، وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل .

فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبني على مقدمة -زعموا أنها معلومة بالإجماع- كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا، ويذكروا من الإجماعات ما هو أبين من هذا الإجماع، لا سيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به، أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع، وهي أقوى دلالة .

فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة ، امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع ، فضلا عن نفس الإجماع، فضلا عما هو مبني على مقدمة [ ص: 86 ] مبنية على الإجماع، لو كان البناء حقا، فكيف إذا كان باطلا؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية