الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر ما يتعلق بأنفسهم كونوا قوامين لله أي: كثيري القيام له بحقوقه اللازمة، وقيل: أي: ليكن من عادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى شهداء بالقسط أي: بالعدل، وقيل: دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة ولا يجرمنكم أي: لا يحملنكم شنآن قوم أي: شدة بغضكم لهم على ألا تعدلوا فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل، أو فتعدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل اعدلوا أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم، واقتصر بعضهم على الأعداء بناء على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف الله تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل، ( هو ) راجع إلى العدل الذي تضمنه الفعل، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل الذي أشار إليه سبب النزول، وإما العدل مع الكفار أقرب للتقوى أي: أدخل في مناسبتها؛ لأن التقوى نهاية الطاعة، وهو أنسب الطاعات بها، فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها، فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب، وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة، واللام مثلها في قولك: ( هو قريب لزيد ) للاختصاص لا مكملة؛ فإنه بمن أو إلى.

                                                                                                                                                                                                                                      وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال: فإن قيل: كيف ذكر سبحانه: ( أقرب للتقوى ) وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد، لأحدهما مزية، وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل: إن ( أفعل ) وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه؛ قطعا لكلامه، وإظهارا لتبكيته، فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا - وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه: اخدم عمرا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: آلله خير أما يشركون وقد علم أن لا خير فيما يشركون.

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جل وعلا: واتقوا الله إثر ما بين أن العدل أقرب لها؛ اعتناء بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله خبير بما تعملون من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ، وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين، وهذه في اليهود .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه، فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة، فبدأ فيها بالقيام لله تعالى؛ لأنه أردع للمؤنين، ثم ثنى بالشهادة بالعدل، فجيء في كل معرض بما يناسبه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية