الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له [ ص: 280 ] الرسالة التي سماها برسالة " الإيماء إلى مسألة الاستواء " لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء وذكر أقوالا متعددة: قول الطبري أبي جعفر محمد بن جرير صاحب التفسير وأبي محمد بن أبي زيد والقاضي [ ص: 281 ] عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه قال: وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري، وحكاه عنه أعني القاضي أبي بكر والقاضي عبد الوهاب نصا، وهو أنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته، قال: وأطلقوا القول في بعض الأماكن فوق عرشه، قال أبو بكر الحضرمي: وهو الصحيح الذي أقول به، من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة.

[ ص: 282 ] قال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير في كتاب شرح الأسماء الحسنى بعد أن حكى كلام الحضرمي: هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب ( تمهيد الأوائل ) له، وقاله الأستاذ ابن فورك في ( شرح أوائل الأدلة ) وهو قول أبي عمر بن عبد البر [ ص: 283 ] والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين، وقول الخطابي في " شعار الدين ": ثم قال بعد أن ذكر في الاستواء أربعة عشر [ ص: 284 ] قولا: وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار، أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقاة ".

ونقل أبو بكر بن فورك في كتاب مقالة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وموافقته الأشعري وما بينهما من النزاع اليسير أو اللفظي فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب المقالات: من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وأبان ما أبان في آخره، أنه يقول بجميع ذلك.

ثم سرد ابن فورك المقالة التي تقدم ذكرنا لها من كلام الأشعري بعينها وما فيها من ذكر العرش واستواء الله عليه والصفات الخبرية وغير ذلك، كما تقدم، ثم قال في آخرها: فهذا يحقق لك من ألفاظه أنه يعتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم".

ولا ريب أن هذا قول الأشعرية المتقدمين وأئمتهم كلهم [ ص: 285 ] ما علمت بينهم في ذلك نزاعا، وإنما أنكر ذلك من أنكره من متأخريهم، وجميع كتب الأشعري تنطق بذلك كما ذكرناه فيما تقدم من كتبه وفيما لم يصل إلينا مما يحيل هو عليه مثل ما ذكره أبو القاسم بن عساكر ( في تبيين كذب المفتري ) فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري بعد أن قال: " فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في ( الإبانة ) فإنه قال: " الحمد لله الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد" وذكر تمام الخطبة إلى أن قال: " فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا [ ص: 286 ] قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين. وذكر تمام الاعتقاد كما ذكرناه عنه فيما تقدم لما ذكر ما ذكره الأشعري في الإبانة.

ثم قال ابن عساكر بعد أن فرغ من سياق ذلك: " فتأملوا - رحمكم الله- هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه".

قال الحافظ ابن عساكر: " قال أبو الحسن في كتابه الذي سماه العمد في الرؤية: ألفنا كتابا كبيرا في الصفات، تكلمنا [ ص: 287 ] فيه على أصناف المعتزلة والجهمية في فنون كثيرة من الصفات: في إثبات الوجه لله، واليدين، وفي استوائه على العرش".

ولشهرة هذا من مذهب الأشعري قال أبو الحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري في كتابه الذي ألفه في مشكل الآيات في باب قوله: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] اعلم أن الله - سبحانه وتعالى- في السماء فوق كل شيء على عرشه، بمعنى أنه عال عليه. ومعنى الاستواء الاعتلاء كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته، واستوى الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي. بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي. فالقديم جل جلاله عال على عرشه، قوله أأمنتم من في السماء [الملك: 16] وقوله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55] وقوله: إليه يصعد الكلم الطيب [ ص: 288 ] [فاطر: 10] وقوله: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [السجدة: 5]

قال: وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق استولى عليها. وقال: إن العرش يكون الملك.

[ ص: 289 ] فيقال: ما أنكرت أن يكون عرش الله جسما خلقه وأمر ملائكته بحمله، قال: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [الحاقة: 17] وأمية يقول:


مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا     بالبناء الأعلى الذي سبق الناس
وسوى فوق السماء سريرا

قال: " ومما يدل على أن الاستواء هاهنا ليس بالاستيلاء، لأنه لو كان كذلك لم ينبغ أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى سائر خلقه، وليس للعرش مزية على ما وصفته، فبان بذلك فساد قوله.

ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء، الذي من قول العرب: استوى فلان على كذا: أي استولى. إذا تمكن فيه بعد أن لم يكن متمكنا. فلما كان الباري لا يوصف بالتمكن بعد [ ص: 290 ] أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، ثم قال: حدثنا أبو عبد الله نفطويه، ثنا أبو سليمان قال: كنا عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل فقال: ما معنى [ ص: 291 ] الرحمن على العرش استوى [طه: 5] قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال: ليس هو كذلك إنما معناه استولى. قال ابن الأعرابي: اسكت ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: استولى عليه، والله لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر".

[ ص: 292 ] قال أبو الحسن بن مهدي الطبري: فإن قيل: فما تقولون في قوله: أأمنتم من في السماء [الملك: 16] قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال فسيحوا في الأرض [التوبة: 2] بمعنى على الأرض، وقال: ولأصلبنكم في جذوع النخل [طه: 71] أي على جذوع النخل فكذلك قوله: أأمنتم من في السماء .

قال: فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم [الأنعام: 3] قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في ( السماوات ) ثم يبتدي وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق ملك؛ لدل على الملك بالشام والعراق لا أن ذاته فيهما. قال: فإن قيل: ما تقول في قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [المجادلة: 7] الآية قيل له: كون [ ص: 293 ] الشيء مع الشيء على وجوه: منها بالنصر، ومنها بالصحبة، ومنها بالمماسة، ومنها بالعلم، فمعنى هذا عندنا: أن الله تعالى مع كل الخلق بالعلم.

قال: قال البلخي: فإن قيل لنا: ما معنى رفع أيدينا إلى السماء؟ وقوله: والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]؟ قلنا: تأويل ذلك أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء، وجاز أن يقال: أعمالنا ترفع إلى الله لما كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء، قيل له: إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق فيها [ ص: 294 ] وأن الحفظة مساكنهم في السماء جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعاش، وأنها قرارهم ومنها خلقوا، أو لأن الملائكة معهم في الأرض. فلم تكن العلة في السماء بما وصفه، وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه لرفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه".

فإذا كان ابن فورك وسائر أئمة الأشعرية موافقين الكرامية وغيرهم على أن الله عز وجل نفسه فوق العرش وهم جميعا متفقون على مخالفة المعتزلة الذين ينفون ذلك ويتأولون الاستواء بمعنى الاستيلاء ونحو ذلك. وهم جميعا متفقون على الاستدلال على أن الله فوق العالم بالآيات التي ذكرها هذا الرازي من ناحية مخالفيه، مثل قوله: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] وقوله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك [آل عمران: 55] وقوله: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض [الملك: 16] ومثل ذلك في الآيات كما ذكرنا بعض ذلك.

وقد تنازع ابن فورك وأصحابه مع ابن الهيصم وأصحابه فإما [ ص: 295 ] أن يكون نزاعهم لفظيا أو معنويا فإن كان لفظيا لم يكن ذلك منافيا لاتفاقهم من جهة المعنى، وإن كانت المعاني متفقة لم يضر اختلاف الألفاظ إلا إذا كان منهيا عنها في الشريعة، وإن كان النزاع معنويا فهو أيضا قسمان: أحدهما: اختلاف تنوع بأن يكون هؤلاء يثبتون شيئا لا ينفيه هؤلاء وهؤلاء ينفون شيئا لا يثبته هؤلاء، فهذا أيضا ليس باختلاف معلوم إلا إذا كان كل منهما يدفع ما يقوله الآخر من الحق، فإذا كان أحدهما يثبت حقا والآخر ينفي باطلا كان على كل منهما أن يوافق الآخر، وإذا اختلفا كانا جميعا مذمومين، وهذا من الاختلاف الذي ذمه الله تعالى في كتابه، حيث قال سبحانه وتعالى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [البقرة: 176] وقال: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [آل عمران: 105] وأمثال ذلك.

وإن كانا قد تنازعا حقيقيا هما فيه متناقضان على حقيقة التناقض بحيث أن يكون أحدهما ينفي ما أثبته الآخر، فهذا بعد اتفاقهم على إثبات أنه فوق العرش فوق العالم، ومخالفتهم جميعا للمعتزلة- الذين سلك هذا الرازي وأمثاله مسلكهم في كتابه هذا التأسيس- إنما يكون بأن يقول المثبت: كونه فوق [ ص: 296 ] العرش يستلزم أن يكون في جهة أو يكون متحيزا أو أن يكون منقسما ونحو ذلك. ويقول الثاني: كونه على العرش لا يستلزم ذلك بل يجوز أن يكون على العرش ولا يكون جسما، وهذا الثاني قول الأشعرية. فالخلاف بينهم وبين الأشعرية أنه إذا كان على العرش هل يستلزم ذلك أن يكون جسما أو لا يستلزم ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية