الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 99 ] 734 - باب بيان مشكل ما اختلف العلماء فيه من المراد بقول الله عز وجل : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، مما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبب الذي كان نزولها فيه ، ومما تأوله بعضهم عليه .

4685 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، عن حيوة بن شريح ، قال : حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، حدثني أسلم أبو عمران ، قال : كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام رجل فخرج من المدينة صف عظيم من الروم ، فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيه ، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه : سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل ، إنما أنزلت فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا لبعضنا بعض سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أقمنا [ ص: 100 ] فيها وأصلحنا منها ما قد ضاع ، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما قد هممنا به ، فقال : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأمرنا بالغزو ، فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله تعالى .

ففي هذا الحديث ، أن التهلكة المذكورة في هذه الآية هي التهلكة في الدين ، والتهلكة والهلك واحد في كلام العرب ، كذلك حدثنا ولاد النحوي ، عن المصادري ، عن أبي عبيدة ، وكان معنى ذلك : أن من بلغت حاله من ترك الغزو والامتناع من النفقة في سبيل الله كما قد كانت الأنصار عليه ، ثم همت بخلافه ، هلاك .

[ ص: 101 ] ومثله ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

4686 - كما قد حدثنا علي بن شيبة ، أخبرنا روح بن عبادة ، حدثنا مالك بن أنس ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم .

[ ص: 102 ]

4687 - وكما قد حدثنا أبو أمية ، حدثنا خالد بن مخلد القطواني ، حدثنا مالك بن أنس ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وكان ذلك على الهلاك في الدين لا فيما سواه .

ثم نظرنا فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بهذه الآية عندهم ، مما لم يذكروا فيه أن نزولها كان فيه كما ذكره أبو أيوب في حديثه الذي ذكرناه عنه .

فوجدنا أحمد بن الحسن الكوفي قد حدثنا ، قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، قال : قال رجل لعمر - وقتل خاله - : يا أمير المؤمنين ، إن قوما يزعمون أن خالي ممن ألقى بيده إلى التهلكة ، قال : بل هو من الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة .

قال أبو جعفر : ولم يذكر في هذا الحديث السبب الذي قيل لخاله من أجله ما قيل ، غير أنا قد أحطنا علما أنه من أسباب القتال في سبيل الله .

[ ص: 103 ] ووجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق أن رجلا قال للبراء : أحمل على الكتيبة في ألف بالسيف من التهلكة ؟ قال : لا إنما التهلكة أن يذنب الرجل الذنب ، ثم يلقي بيديه يقول : لا يغفر لي .

ووجدنا محمد بن زكريا أبا شريح وابن أبي مريم قد حدثانا قالا : حدثنا الفريابي ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تمسكوا النفقة في سبيل الله فتهلكوا .

ووجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن منصور ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : ينفق في سبيل الله وإن لم يكن له إلا مشقص .

[ ص: 104 ] قال أبو جعفر : يريد أنه ينفق في سبيل الله من قليل المال ، كما ينفق من كثيره على التحذير منه إياه ، أن يترك ذلك فيدخل في الوعيد الذي قد ذكرنا .

ووجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، قال : قال حذيفة في تأويل هذه الآية في النفقة ، قال شعبة : فحدثت به يونس ، فقال : رحم الله الحسن ، ما قال شيئا إلا وجدت له أصلا .

ووجدنا فهدا قد حدثنا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا شيبان [ ص: 105 ] النحوي ، عن منصور ، عن أبي صالح مولى أم هانئ ، عن ابن عباس في قوله عز وجل : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : لا يقولن أحدكم إني هالك لا أجد شيئا إن لم يجد إلا مشقصا ، فليجاهد به في سبيل الله عز وجل .

فكل هؤلاء الذين روينا عنهم هذه الآثار يخبرون أن التهلكة المذكورة في الآية التي تلونا ليست في لقاء العدو بالقتال الذي ليس مع من لقيهم من الطاعة ما لا يؤمن عليه منهم قتلهم إياه ، وأنه في فعله ذلك غير مذموم فيه .

فقال قائل : كيف تقبلون هذا وقد رويتم في تأويل هذه الآية خلافه ؟ .

فذكر ما قد حدثنا فهد بن سليمان وهارون بن كامل جميعا قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري ، أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة ، فأسرع إلى العدو وحده [ ص: 106 ] يستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص ، وهو على جند من الأجناد ، فأرسل إليه عمرو فرده وقال له عمرو : إن الله عز وجل يقول إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، وقال : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة .

قال : فهذا عمرو بن العاص قد جعل لقاء العدو بمثل ما طلب ذلك الرجل لقاءهم عليه من التهلكة .

وكان جوابنا له في ذلك أن هذا الذي كان من عمرو ليس فيه إخبار عن السبب الذي فيه نزلت الآية ، وحديث أبي أيوب فيه الإخبار عن السبب الذي فيه نزلت ، وفي خبر أبي أيوب التوقيف على السبب الذي فيه نزلت وهم ، فلم يعلموا نزولها ، ولا السبب الذي أريد بنزولها فيه إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوته إياها عليهم وبإخباره إياهم السبب الذي نزلت فيه ، وعمرو بن العاص قد يحتمل أن يكون ما قاله مما في حديثه الذي رويناه عنه كان ما تأولها عليه ، مما هو له واسع ، إذ كانت محتملة لما تأولها عليه ، ولو وقف على ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يخالف ذلك لتمسك به ، ولرد تأويله إليه ، ولم يقل في تأويلها خلافه ، والذي يكون ممن يطلب في قتال العدو ، وتأول في حديث [ ص: 107 ] عمرو هذا مما يطلب به النكاية في العدو ، وصاحبه محمود عليه ، والله أعلم الذي أراده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الحديث الذي رويناه عنه في هذا الباب حتى تلا من أجله الآية التي تلاها ، وهي : الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وهي أجل المراتب وأعلاها .

وقد كان من جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة مثل ذلك .

كما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أحمد بن خالد الوهبي ، حدثنا ابن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة ، قال : شهد مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم فرأيت جعفرا حين لاحمه القتال اقتحم على فرس له شقراء ، ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل ، فكان أول رجل عقر في سبيل الله يومئذ .

قال أبو جعفر : وذلك كان منه بحضرة من بقي من الأمراء الذين كانوا معه وهو بحضرة عبد الله بن رواحة وبحضرة من خلفه في القتال ، وهو خالد بن الوليد الذي حمده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسماه لذلك [ ص: 108 ] سيف الله ، وبحضرة من كان سواهما من المسلمين ذلك منه ، ولم ينكروه عليه .

ومما نحيط علما به : أنه قد تناهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله فلم ينكره عليه ، ولم ينه المسلمين عن مثله ، فدل ذلك أن هذا الفعل من أجل الأفعال وأن الثواب عليه من أعظم الثواب من الله عز وجل ، وأن تأويل الآية التي تلوناها كما رويناه عن أبي أيوب في تأويلها ، لا كما سواه مما يخالف ذلك ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية