الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما الحجة القياسية المشهورة في هذا الباب التي احتج بها الأشعري وغيره فإن هذا الرازي قد ذكرها في نهايته، وأورد عليها اعتراضات كثيرة تهدمها، وكذلك من قبله كالشهرستاني وغيره، ولم يقفوا على غورها ولا أعطوها حقها، وليس هذا موضع بسطها، لكن ننبه عليها، فإنا قد قدمنا فيما تقدم أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى كما ورد به القرآن والسنة [ ص: 328 ] واستعملها السلف والأئمة كما يقال: إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى فتنزيه ربه أولى، وإذا كان العبد عالما قادرا فالله أولى.

وكذلك هذه، فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن فرؤية الموجود الواجب القديم أولى، وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يرى ويحس به فالرب الكامل في وجوده أحق بأن يرى، فإن كون الشيء بحيث يرى كمال في حقه لا نقص، لأن كونه لا يرى ولا يحس به لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم، فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم لا تكون صفة كمال بخلاف الصفات التي تثبت للموجود دون المعدوم فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها، وكل صفة لا تثبت للمعدوم، ولا يختص بها الناقص، فإنها لا تكون إلا صفة كمال. وهذه الطريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال، التي هو الباري أحق بها من المخلوقات.

ونظيرها في مسألة العلو: أن علو الشيء بنفسه على غيره صفة كمال، كما أن قدرته عليه صفة كمال. وإذا كان كذلك، فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره، فيجب أن يكون عاليا بنفسه، وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة [ ص: 329 ] لا يوصف بها المعدوم ولا تختص بالناقصات، فتكون صفة كمال، فيجب اتصاف الله بها، وذلك يوجب مباينته للعالم.

لكن قد علمنا أنا لم نكتب هنا ما يحتج به أهل الإثبات، ولكن تكلمنا على ما ذكره الرازي ولوازمه، فبينا أن هذه الحجة القياسية المذكورة في الرؤية مضمونها: أنا إنما نرى الأشياء لكونها موجودة، والله سبحانه وتعالى موجود، بل هو أكمل في الوجود، فيجب أن تكون رؤيته جائزة.

وتلخيصها أن يقال: لا ريب أنا نرى الموجودات من الجواهر والأعراض كالألوان والمقادير مثل الطول والقصر ونحوهما دون المعدومات، واختصاص الرؤية الموجود دون المعدوم يقتضي أن المقتضي لجواز الرؤية مختص الوجود، ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يكون الموجود والمعدوم في الرؤية سواء إذ لو كانا متماثلين في ذلك لم يجز اختلافهما في رؤية أحدهما دون الآخر، فليس المراد بقولنا: إن علة الرؤية أو المقتضي لها مختص بالوجود، إثبات علة أو سبب زائد على حقيقة الموجود مقتض لصحة رؤيته كما توهمه من قال في الأحكام ما يعلل منها وما لا يعلل. فيجوز أن تكون الرؤية من الأحكام التي لا تعلل، بل المراد أن كون أحد الجنسين تصح رؤيته دون الآخر يقتضي اختلافهما في ذلك وعدم تماثلهما، [ ص: 330 ] سواء كان سبب هذا الاختلاف نفس ذات الموجود أو صفة له أو غير ذلك، وهذا لا ينازع فيه من فهمه.

التالي السابق


الخدمات العلمية