الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور .

جملة الحمد لله تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنها تدل على الحصر . واللام لتعريف الجنس ، فدلت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى . وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة .

ثم إن جملة الحمد لله هنا خبر لفظا ومعنى إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنه عقب بقوله : إياك نعبد إلى آخر السورة ، فمن جوز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يجد التأمل .

[ ص: 126 ] فالمعنى هنا أن الحمد كله لا يستحقه إلا الله ، وهذا قصر إضافي للرد على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيلوه من إسدائها إليهم نعما ونصرا وتفريج كربات ، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحد : اعل هبل ، لنا العزى ولا عزى لكم . ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا على معنى الكمال وأن حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه . والمقصود هو هو ، وهو الرد على المشركين ، لأن الأصنام لا تستحق الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا . ولذلك عقبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون .

والموصول في محل الصفة لاسم الجلالة ، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عم السماوات والأرض وما فيهن من الجواهر والأعراض . وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى . وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله ، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت . والجملة الخبرية لا تعلل ، لأن الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله . فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعد : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون .

وجمع السماوات لأنها عوالم كثيرة ، إذ كل كوكب منها عالم مستقل عن غيره ، ومنها الكواكب السبعة المشهورة المعبر عنها في القرآن بالسماوات السبع فيما نرى . وأفرد الأرض لأنها عالم واحد ، ولذلك لم يجئ لفظ الأرض في القرآن جمعا .

وقوله : وجعل الظلمات والنور أشار في الكشاف أن ( جعل ) إذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى ( خلق ) . والفرق بينه وبين ( خلق ) ; فإن في الخلق ملاحظة معنى التقدير ، وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب ، يعني كون المجعول مخلوقا لأجل غيره أو منتسبا إلى غيره ، فيعرف المنتسب إليه بمعونة المقام . فالظلمات والنور لما كانا عرضين كان خلقهما تكوينا لتكيف موجودات السماوات والأرض بهما . ويعرف ذلك بذكر الظلمات والنور عقب ذكر السماوات والأرض ، وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض ، ولفظ الجعل للظلمات [ ص: 127 ] والنور ، ومنه قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها فإن الزوج - وهو الأنثى - مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر ، ولذلك عقبه بقوله : ليسكن إليها والخلق أعم في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها لأن كل تكوين لا يخلو من تقدير ونظام .

وخص بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين ، وهما : الظلمات والنور فقال : وجعل الظلمات والنور لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما . وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض . فالتفرقة بين فعل ( خلق ) وفعل ( جعل ) هنا معدود من فصاحة الكلمات . وإن لكل كلمة مع صاحبتها مقاما ، وهو ما يسمى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ، ففعل ( خلق ) أليق بإيجاد الذوات ، وفعل ( جعل ) أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها .

والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنهم بين مشركين وصابئة ومجوس ونصارى ، وكلهم قد أثبتوا آلهة غير الله ; فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض ، والصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية ، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرضية ، والمجوس وهم المانوية ألهوا النور والظلمة ، فالنور إله الخير والظلمة إله الشر عندهم .

فأخبرهم الله تعالى أنه خالق السماوات والأرض ، أي بما فيهن ، وخالق الظلمات والنور .

ثم إن في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضا بحالي المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق ، فإن الكفر يشبه الظلمة لأنه انغماس في جهالة وحيرة ، والإيمان يشبه النور لأنه استبانة الهدى والحق . قال تعالى : يخرجهم من الظلمات إلى النور . وقدم ذكر الظلمات مراعاة للترتب في الوجود لأن الظلمة سابقة النور ، فإن النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة ، وكانت الظلمة عامة . وإنما جمع الظلمات وأفرد النور اتباعا للاستعمال ، لأن لفظ الظلمات بالجمع أخف ، ولفظ النور بالإفراد أخف ، ولذلك لم يرد لفظ الظلمات في القرآن إلا جمعا [ ص: 128 ] ولم يرد لفظ النور إلا مفردا . وهما معا دالان على الجنس ، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتباع الاستعمال ، خلافا لما في الكشاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية