الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين - غير مالك - كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا ; بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ولكن من الناس من يحرف نقلها وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى [ ص: 226 ] والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في باب زيارة ; قبره بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم ; كما كان حال حياته وكذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه . وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني فقال : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه . قال : وحج حجتين فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه . وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه . فقيل له يوما في ذلك فقال : لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون لقد كنت أرى محمد بن المنكدر - وكان سيد القراء - لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه .

                ولقد كنت أرى جعفر بن محمد - وكان كثير الدعابة والتبسم - فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة . ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال :

                إما مصليا وإما صامتا وإما يقرأ القرآن . ولا يتكلم فيما لا يعنيه

                وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله . [ ص: 227 ] ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع . ولقد رأيت الزهري - وكان لمن أهنأ الناس وأقربهم - فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه .

                فهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فهر حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك . يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوما فقال : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ومدح قوما فقال : { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية وذم قوما فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا . فاستكان لها أبو جعفر فقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو ؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله قال الله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } .

                قلت وهذه الحكاية منقطعة ; فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكا لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة . وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث كذبه أبو زرعة وابن وارة وقال صالح بن محمد الأسدي : ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه . وقال يعقوب بن شبيبة : كثير المناكير . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال ابن حبان : ينفرد عن الثقات بالمقلوبات . وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين . وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين وفي الإسناد أيضا من لا تعرف حاله .

                وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه [ ص: 229 ] ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته هذا إن ثبت عنه ، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث ؟ . مع أن قوله " وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة " إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة وهذا حق ; كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين تأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم فيردهم آدم إلى نوح ثم يردهم نوح إلى إبراهيم وإبراهيم إلى موسى وموسى إلى عيسى ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال { أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر } ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه : - ( أحدها قوله " أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله وأدعو ؟ " فقال " ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم " فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه بل إنما يستقبل [ ص: 230 ] القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له . هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم . وعند أصحاب أبي حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضا . ثم منهم من قال : يجعل الحجرة على يساره - وقد رواه ابن وهب عن مالك - ويسلم عليه . ومنهم من قال : بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه وهذا هو المشهور عندهم ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر لذلك . قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك قال لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لكن يسلم ويمضي " قال : وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي صلى الله عليه وسلم السلام على أبي بكر السلام على أبي . ثم ينصرف . ورئي واضعا يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه . قال : وعن ابن أبي قسيط والقعنبي كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التي تلقاء القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون . قال : وفي الموطأ من رواية يحيى بن الليثي أنه كان - يعني ابن عمر - يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وعند ابن القاسم للمروذي : ويدعو لأبي بكر وعمر .

                قال مالك في رواية ابن وهب : يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . وقال في المبسوط : ويسلم على أبي بكر وعمر . [ ص: 231 ] قال أبو الوليد الباجي : وعندي أن يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر [ بلفظ السلام ] لما في حديث ابن عمر من الخلاف . وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب قال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر . فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية