الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 91 ] ( باب الاستسقاء ) ( قال أبو حنيفة : ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة ، فإن صلى الناس وحدانا جاز ، وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار ) لقوله تعالى { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا } الآية ، { ورسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى ولم ترو عنه الصلاة } [ ص: 92 ] ( وقالا : يصلي الإمام ركعتين ) لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كصلاة العيد } رواه ابن عباس . قلنا : فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة ، وقد ذكر في الأصل قول محمد وحده .

[ ص: 93 ] ( ويجهر فيهما بالقراءة ) اعتبارا بصلاة العيد ( ثم يخطب ) لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب } ثم هي كخطبة العيد عند محمد ، وعند أبي يوسف خطبة واحدة [ ص: 94 ] ( ولا خطبة عند أبي حنيفة ) ; لأنها تبع للجماعة ولا جماعة عنده ( ويستقبل القبلة بالدعاء ) لما روي { أنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة وحول رداءه } ( ويقلب رداءه ) لما روينا . قال : وهذا قول محمد ، أما عند أبي حنيفة فلا يقلب رداءه ; لأنه دعاء فيعتبر بسائر الأدعية . [ ص: 95 ] وما رواه كان تفاؤلا ( ولا يقلب القوم أرديتهم ) ; لأنه لم ينقل أنه أمرهم بذلك .

[ ص: 91 ]

التالي السابق


[ ص: 91 ] ( باب الاستسقاء ) يخرجون للاستسقاء ثلاثة أيام ، ولم ينقل أكثر منها متواضعين متخشعين في ثياب خلق مشاة يقدمون الصدقة كل يوم بعد التوبة إلى الله تعالى إلا في مكة وبيت المقدس فيجتمعون في المسجد ( قوله : قال أبو حنيفة إلخ ) مفهومه استنانها فرادى وهو غير مراد ( قوله : ورسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى ولم ترو عنه الصلاة ) يعني في ذلك الاستسقاء فلا يراد أنه غير صحيح كما قال الإمام الزيلعي المخرج ، ولو تعدى بصره إلى قدر سطر حتى رأى قوله في جوابهما قلنا فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة لم يحمله على النفي مطلقا وإنما يكون سنة ما واظب عليه ، ولذا قال شيخ الإسلام : فيه دليل على الجواز . عندنا يجوز لو صلوا بجماعة ، ولكن ليس بسنة ، وبه أيضا يبطل قول ابن العز : الذين قالوا بمشروعية صلاة الاستسقاء لم يقولوا بتعينها ، بل هي على ثلاثة أوجه : تارة يدعون عقيب الصلوات ، وتارة يخرجون إلى المصلى فيدعون من غير صلاة ، وتارة يصلون جماعة ويدعون .

وأبو حنيفة لم يبلغه الوجه الثالث فلم يقل به ، والعجب أنه قال بعد نقله قول المصنف قلنا فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة ، وهو مصرح بعلمهم بفعله ، وكذا قول غير المصنف المروي فيه شاذ فيما تعم به البلوى ، وهو ظاهر جواب الرواية ، فإن عبارته في الكافي الذي هو جمع كلام محمد قال : لا صلاة في الاستسقاء إنما فيه الدعاء ، بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه خرج ودعا } وبلغنا عن عمر ، أنه صعد المنبر فدعا فاستسقى ، ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به . انتهى . وهذا صريح من جهة الرواية في علم محمد به .

فإن قيل : من أين يلزم كون ما علمه محمد رحمه الله ومن بعده من الرواية معلوما لأبي حنيفة ؟ قلنا : ومن أين علم أنه لم يبلغه وبلغ أتباعه الظاهر تلقيهم ذلك عنه . ثم الجواب عنه بما ذكر وفي عدم الأخذ به لشذوذه ، ويلزمه أنهم لو صلوا بجماعة كان مكروها ، وقد صرح الحاكم أيضا في باب صلاة الكسوف من الكافي بقوله [ ص: 92 ] ويكره صلاة التطوع جماعة ما خلا قيام رمضان وصلاة الكسوف ، وهذا خلاف ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ثم الحديث الذي روي من صلاته صلى الله عليه وسلم هو ما في السنن الأربعة عن إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال : أرسلني الوليد بن عتبة وكان أمير المدينة إلى ابن عباس أسأله عن استسقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد } صححه الترمذي .

وقال المنذري في مختصره : رواية إسحاق بن عبد الله بن كنانة عن ابن عباس وأبي هريرة مرسلة ، ولا يضر ذلك ، فقد صح من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أخرجه الستة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين وحول رداءه ورفع يده فدعا واستسقى واستقبل القبلة } زاد البخاري فيه { جهر فيها بالقراءة } وليس هذا عند مسلم ، ووهم البخاري ابن عيينة في قوله : إنه عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، بل هو ابن زيد بن عاصم المازني . وأما ما رواه الحاكم عن ابن عباس وصححه وقال فيه { فصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية وكبر فيها خمس تكبيرات } فليس بصحيح كما زعم بل هو ضعيف معارض .

أما ضعفه فبمحمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، قال البخاري : منكر الحديث والنسائي متروك ، وأبو حاتم ضعيف الحديث ليس له حديث مستقيم . وقال ابن حبان : يروي عن الثقات المعضلات حتى سقط الاحتجاج به .

وأما المعارضة فيما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم { استسقى فخطب قبل الصلاة ، واستقبل القبلة وحول رداءه ثم نزل فصلى ركعتين لم يكبر فيهما إلا تكبيرة [ ص: 93 ] تكبيرة } ، وأخرج أيضا عن ابن عباس قال { لم يزد صلى الله عليه وسلم على ركعتين مثل صلاة الصبح } ووجه الشذوذ أن فعله صلى الله عليه وسلم لو كان ثابتا لاشتهر نقله اشتهارا واسعا ولفعله عمر حين استسقى ولأنكروا عليه إذا لم يفعل ; لأنها كانت بحضرة جميع الصحابة ; لتوافر الكل في الخروج معه صلى الله عليه وسلم للاستسقاء ، فلما لم يفعل لم ينكروا ولم يشتهر روايتها في الصدر الأول بل هو عن ابن عباس وعبد الله بن زيد على اضطراب في كيفيتها عن ابن عباس وأنس كان ذلك شذوذا فيما حضره الخاص والعام والصغير والكبير .

واعلم أن الشذوذ يراد باعتبار الطرق إليهم ، إذ لو تيقنا عن الصحابة المذكورين رفعه لم يبق إشكال ، وإذا مشينا على ما اختاره شيخ الإسلام وهو الجواز مع عدم السنية فوجهه أنه صلى الله عليه وسلم إن فعله مرة كما قلتم فقد تركه أخرى فلم يكن سنة ، بدليل ما روي في الصحيحين { أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا قال أنس رضي الله عنه : فلا والله ما نرى بالسماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت } الحديث ( قوله : ثم هي كخطبة العيد عند محمد ) يعني فيكون خطبتين يفصل بينهما بجلوس ولذا قابله بقوله وعند أبي يوسف خطبة واحدة ، ولا صريح في المرويات يوافق قول محمد إنها خطبتان ، ويحتمل أنه أخذه من المروي عن ابن عباس { أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين كصلاة العيد } مع رواية الخطبة في حديث أنس المذكور في رواية الطبراني السابقة ، وفي حديث أبي هريرة من رواية ابن ماجه قال فيه { ثم خطبنا ودعا الله } فتكون كخطبة العيد ، وهو غير لازم ، ثم في حديث ابن عباس على ما قدمناه .

قوله : فلم يخطب بخطبتكم هذه فإنه يفيد نفي الخطبة المعهودة وهي خطبة الجمعة لا أصل الخطبة ، فإن النفي إذا دخل على مقيد انصرف إلى القيد ثم أفاد ثبوت أصل الحكم في المحاورات الخطابية لا بالنسبة إلى الأحكام الشرعية عندنا ، ومطلقا عند الثلاثة فلذا لم ينتهض . استدل من استدل بحديث ابن عباس هذا للإمام أحمد على نفي الخطبة في الاستسقاء ، فإن أحمد ينفيها كقول أبي حنيفة رضي الله عنهما .

وأما على أصلنا فحاصله نفي الخطبة المخصوصة ، وهو لا يستلزم ثبوت أصلها نفيا لدلالة المفهوم في الأحكام فتبقى على العدم حتى يقوم دليل ، وأنت قد علمت أنها رويت ولا بد للإمام أحمد إذ كان ينفيها أن يحكم بعدم صحة الوارد فيها فينتفي الدليل ونفي المدرك الشرعي يكفي لنفي الحكم الشرعي .

أما حديث ابن عباس المتقدم من رواية الأربعة فإن لم يدل على وجود الخطبة فلا إشكال ، وإن دل ، فإن صححه الترمذي فقد سكت عنه الحاكم وسكوته يشعر بضعفه عنده ، وتقدم حكم الحافظ المنذري أنها مرسلة ، وحديث أبي هريرة أعل بأنه تفرد به النعمان بن راشد عن الزهري . وقال البخاري فيه : هو صدوق ولكن في حديثه وهم كثير ا هـ . فلا يحتمل التفرد مع هذا وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم { خرج صلى الله عليه وسلم يستسقي فبدأ [ ص: 94 ] الصلاة قبل الخطبة } ولم يقل باستنانها وذلك لازم ضعف الحديث ، وأنت علمت أن ضعفه لا يلزمه فيه كونه بضعف بعض الرجال بل العلل كثيرة .

وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت { شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه ، قالت : فخرج صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله - عز وجل - ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن زمانه عنكم وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين . ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس ونزل من المنبر فصلى ركعتين ، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله فلم يأت صلى الله عليه وسلم مسجده حتى سالت السيول ، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه . فقال : أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبده ورسوله } انتهى . قال أبو داود حديث غريب وإسناده جيد .

وذلك الكلام السابق هو المراد بالخطبة كما قاله بعضهم ، ولعل الإمام أحمد أعله بهذه الغرابة أو الاضطراب . فإن الخطبة فيه مذكورة قبل الصلاة ، وفيما تقدم من حديث أبي هريرة بعدها وكذا في غيره . وهذا إنما يتم إذا تم استبعاد أن الاستسقاء وقع حال حياته بالمدينة أكثر من سنتين ، السنة التي استسقى فيها بغير صلاة ، والسنة التي صلى فيها ، وإلا فالله سبحانه أعلم بحقيقة الحال . وفيه أنه أمر بإخراج المنبر . وقال المشايخ : لا يخرج وليس إلا بناء على عدم حكمهم بصحته ، هذا ويستحسن أيضا الدعاء بما يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو به في الاستسقاء وهو : { اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا سحا عاما طبقا دائما . اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين . اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من اللأواء والضنك ما لا نشكو إلا إليك . اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض . اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا فإذا مطروا قالوا : اللهم صيبا نافعا ، ويقولون مطرنا بفضل الله وبرحمته ، فإن زاد المطر حتى خيف الضرر قالوا : [ ص: 95 ] اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر } كبقية ما سيق من الحديث : أعني الاستسقاء على المنبر حين قال ذلك الرجل { يا رسول الله هلكت الأموال وتقطعت السبل ، فادع الله يغيثنا ، فرفع يديه وقال : اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ، قال أنس : فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، فلا والله ما رأينا الشمس سبتا . قال ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنها ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ، قال : فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس }

وقياس ما ذكرنا من الاستسقاء إذا تأخر المطر عن أوانه فعله أيضا لو ملحت المياه المحتاج إليها أو غارت ( قوله : وما رواه كان تفاؤلا ) اعترف بروايته ومنع استنانه ; لأنه فعل لأمر لا يرجع إلى معنى العبادة والله أعلم ( قوله : لم ينقل ) قال الزيلعي : المخرج ليس كذلك ، عند أبي داود { استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداء ، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت قلبها على عاتقه } زاد الإمام أحمد { وتحول الناس معه } قال الحاكم على شرط مسلم . انتهى .

ودفع بأنه إنما قال في الهداية : لأنه لم ينقل أنه أمرهم بذلك فنقل أنهم فعلوا ذلك لا يمسه . وأجيب بأن تقريره إياهم إذ حولوا أحد الأدلة ، وهو مدفوع بأن تقريره الذي هو من الحجج ما كان عن علمه ، ولم يدل شيء مما روي على علمه بفعلهم ثم تقريره بل اشتمل على ما هو ظاهر في عدم علمه به وهو ما تقدم من رواية أنه إنما حول بعد تحويل ظهره إليهم . [ ص: 96 ] واعلم أن كون التحويل كان تفاؤلا جاء مصرحا به في المستدرك من حديث جابر وصححه قال : { حول رداءه ليتحول القحط } . وفي طوالات الطبراني من حديث أنس { وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب } وفي مسند إسحاق : لتتحول السنة من الجدب إلى الخصب ذكره ومن قول وكيع .




الخدمات العلمية