الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله : "إنه أبطل هذا في إبطال القول بالتجسيم"، فهم يقولون : ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهم .

وذلك أنه قال : "والمعتمد في نفي التجسيم أن يقال: لو كان [ ص: 138 ] الباري جسما: فإما أن يكون كالأجسام، وإما أن لا يكون كالأجسام، فإن قيل : إنه لا كالأجسام كان النزاع في اللفظ دون المعنى ، والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهرا . وإن قيل : إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية أوجه : منها أربعة ، وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهرا، وهي الأول والثالث والرابع والخامس، ويختص الجسم بأربعة أخرى" .

قلت : والذي ذكره في إبطال كونه جوهرا هو أن المعتمد [هو] أنا نقول: لو كان الباري جوهرا لم يخل: إما أن يكون جوهرا كالجواهر أو لا كالجواهر . والأول باطل لخمسة أوجه. وإن قيل : إنه جوهر لا كالجواهر، فهو تسليم للمطلوب . فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر، وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ، ولا مشاحة فيه إلا من جهة ورود التعبد من الشارع به ، ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته . [ ص: 139 ]

قال : "وعلى هذا فمن قال: إنه جوهر ، بمعنى أنه موجود لا في موضوع ، والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه ، كما قاله الفلاسفة ، أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، كما قاله [أبو الحسين البصري] ، مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر ، فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق ، من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه ، لا ورد فيه إذن من الشرع" .

فيقال : إذا كان قول القائل : إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقا لقولك في المعنى ، وإنما النزاع بينك وبينهم في اللفظ قامت حجته عليك لفظا ومعنى . أما اللفظ فمن وجهين : أحدهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه ، وأنت لم تسمه سخيا لعدم إذن الشرع ، فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع في هذا النفي ، بل إذا لم يطلق إلا ما أذن فيه الشرع ، لا يطلق لا هذا ولا هذا . [ ص: 140 ]

ثم أنت تسميه قديما ، وواجب الوجود ، وذاتا ، ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع ، والشارع يفرق بين ما يدعى به من الأسماء ، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى ، وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه ، نفاه عنه ناف لما يستحقه من الصفات ، كما أنه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه: إنه قديم وواجب الوجود ، فإن كان النزاع مع من يقول هو [جوهر] و"جسم" في اللفظ، فعذرهم في الإطلاق أن النافي ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم ، فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم ، كما فعلت أنت وغيرك في اسم "قديم" و"ذات" و"واجب الوجود" ونحو ذلك.

الثاني: أنك احتججت على نفي ذاك بأن العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه.

فيقال لك : ولم ينقل عنها إطلاقه بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ "ذات" بإزاء نفسه. وإنما لفظ "الذات" عندهم تأنيث "ذو"، فلا تستعمل إلا مضافة ، كقوله تعالى: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [سورة الأنفال 1] وقوله : إنه عليم بذات الصدور [سورة الأنفال 43]. وقول النبي [ ص: 141 ] صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله .

وقول خبيب :


وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع



وأمثال ذلك، أي في جهة الله، أي لله تعالى .

ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ "ذات الله" .

وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ "الذات" على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع . ولو قال لك قائل : إن الله ليس بذات ، نازعته . فهكذا يقول منازعك في اسم "الجوهر" و"الجسم" إذا كان موافقا لك على معناهما .

وأيضا فإن لفظ "الجوهر" و"الجسم" قد صار في اصطلاحكم جميعا أعم مما استعملت فيه العرب، فإن العرب لا تسمي كل متحيز [ ص: 142 ] جوهرا، ولا تسمي كل مشار إليه جسما، فلا تسمي الهواء جسما .

وفي اصطلاحكم سميتم هذا جسما ، كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف ، أو كل قائم بنفسه، أو كل شيء، فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية، ولا على إذن الشارع : لا في النفي ولا في الإثبات .

فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا ، كان خاصما لك ، وكان حكمه فيما تنازعتما فيه ، كحكمكما فيما اتفقتما عليه ، أو فيما انفردت به دونه من هذا الباب .

وأيضا فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهرا ، والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع، إنما قاله ابن سينا ومن تبعه .

وأما أرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فيسمونه جوهرا ، فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض ، والمبدأ الأول داخل عندهم في مقوله "الجوهر" .

والأظهر أن النصارى إنما أخذوا تسميته جوهرا عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولا من دين المسيح ودين المشركين الصابئين .

التالي السابق


الخدمات العلمية