الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 236 ] 751 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام أقوال السكران وأفعاله ، وفي الحكم الذي يكون به سكرانا ما هو

قال أبو جعفر : أول ما نبتدئ به في هذا الباب قول الله جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، فكان في هذه الآية نهي الله - عز وجل - إياهم في الحال التي كانت الخمر فيها حلالا لهم أن يقربوا الصلاة إذا شربوها ، حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون ، وقد روينا فيما تقدم منا في كتابنا هذا حديث عمر - رضي الله عنه - أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أقيمت الصلاة ينادي : لا يقربن الصلاة سكران .

وفي هذا ما قد دل على أنهم لما كانوا قد نهوا عن ما نهوا عنه من هذا ، قد كانت بقيت من عقولهم بقية يعلمون بها ما نهوا عنه ، ولا يدخلون الصلاة عليه ، وفي ذلك ما قد دل : أن السكران المستحق لاسم السكر ليس هو الذي لا يعقل الأرض من السماء ولا المرأة من الرجل ، كما كان أبو حنيفة يقوله في ذلك ، ولكنه الذي معه [ ص: 237 ] التخليط من أجل السكر الذي قد صار من أهله ، فصار يلحقه به التخليط في أقواله وفي أفعاله ، حتى لا يملك من نفسه الامتناع من ذلك ، كما كان أبو يوسف يقوله فيه ، وقد روي في ذلك ما قد دل على هذا المعنى .

4776 - كما قد حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : دعا رجل من الأنصار عليا وعبد الرحمن بن عوف ، فأصابوا من الخمر ، يعني : قبل أن تحرم ، فقدموا عليا في صلاة المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، فخلط فيها ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .

قال : فعقلنا بذلك أن السكر الذي يسمى صاحبه سكرانا ، ويدخل [ ص: 238 ] في أحكام أهله ، هو الذي جعله أبو يوسف سكرانا بما يحدث فيه بالسكر لا السكران الآخر الذي جعله أبو حنيفة سكرانا بالأحوال التي ذكرها مما يحدث فيه .

فقال قائل : هذا حديث منقطع ، ليس مما ينبغي أن يحتج في هذا الباب بمثله . فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه [ ص: 239 ] وإن كان منقطعا في رواية الفريابي عن سفيان ، فإن غيره من رواة سفيان ، قد رفعه ، منهم عبد الرحمن بن مهدي وغيره ، فذكروه عن أبي عبد الرحمن ، عن علي . وقد رواه أبو جعفر الرازي ، عن عطاء بن السائب مرفوعا ، كما ذكرنا .

4777 - مما ناولناه أحمد بن شعيب في كتابه بخطه أمرنا بانتساخه ليحدثنا به ، فكان فيه أن أحمد بن سعيد - يعني : الرباطي - أخبره ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله ، يعني : ابن سعد الدشتكي ، قال : حدثنا أبو جعفر ، يعني : الرازي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - طعاما ، فدعانا فأكلنا وسقانا من الخمر ، فأخذت فينا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله - عز وجل - : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .

فعاد هذا الحديث متصل الإسناد ، ولما وقفنا على السكران الذي تزول به أحكامه ، عن أحكام الأصحاء ، ويرجع إلى خلافها من أحكام أضدادهم ، التمسنا ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المعنى أيضا .

[ ص: 240 ]

4778 - فوجدنا فهد بن سليمان قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا بشير بن المهاجر الغنوي ، قال : حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل يقال له : ماعز بن مالك ، فقال : يا نبي الله ، إني قد زنيت ، وإني أريد أن تطهرني ، قال له : ارجع ، فلما كان من الغداة أتاه أيضا ، فاعترف عنده بالزنى ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع ، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، فسألهم عنه ، فقال : ما تقولون في ماعز بن مالك ؟ هل ترون به بأسا ، أو تنكرون من عقله شيئا ؟ فقالوا : يا رسول الله ، ما نرى به بأسا ، وما ننكر من عقله شيئا ، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة ، فاعترف عنده بالزنى ، وقال : يا رسول الله ، طهرني ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عنه ، فقالوا كما قالوا في المرة الأولى : ما نرى به بأسا ، وما ننكر من عقله شيئا ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده بالزنى ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فحفرت له حفرة ، فجعل فيها إلى صدره ، ثم أمر الناس أن يرجموه ، قال بريدة : كنا نتحدث بيننا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه ، وإنما رجمه عند الرابعة .

[ ص: 241 ] فكان في هذا الحديث ، من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤاله قوم ماعز عنه : هل تنكرون من عقله شيئا ؟ ولم يخصص في ذلك سببا مما ينكر به عقله من سكر ومن غيره . عقلنا بذلك : أنه إذا أنكر من عقله شيء ، خرج به من أحكام الأصحاء المقبولة إقراراتهم إلى من سواهم ممن لا يقبل إقراره ، وأنه يستوي في ذلك حكم الأسباب التي بها ينكر من عقول أصحابها ما ينكر من الجنون ومن غيره ، وفي ذلك دخول السكر في ذلك المعنى ، ووجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا في أمر ماعز ما يزيد على ما في هذا الحديث .

4779 - وهو ما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني ، قال : حدثني يحيى بن يعلى بن الحارث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا غيلان بن جامع ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، طهرني ، فقال : ويحك ، ارجع ، فاستغفر الله وتب إليه ، ثم جاءه ، فقال : يا رسول الله ، طهرني ، فقال : ويحك ارجع فاستغفر الله - عز وجل - وتب إليه ، فرجع غير بعيد ، ثم جاء ، فقال : يا رسول [ ص: 242 ] الله طهرني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، حتى إذا كانت الرابعة ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : مما أطهرك ؟ قال : من الزنى ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أبه جنون ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فسأل : أشربت خمرا ؟ فقام رجل فاستنكهه ، فلم يجد فيه ريح خمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أثيب أنت ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم .

فكان في هذا الحديث الكشف عن أحوال ماعز التي بها يندفع [ ص: 243 ] عنه إقراره بالزنى ، ووجوب الحد به عليه ، وأن السكر منها ، وأن ذلك السكر هو السكر الذي ذكرناه عن أبي يوسف ، لا السكر الذي ذكرناه عن أبي حنيفة .

وفي ذلك ما قد دل على أن السكران الذي معه التخليط الذي لا يملكه من نفسه ، فيدخل بذلك في أحكام من معه ذلك التخليط بالجنون ، فيكون في أحكامه فيما كان سببه السكر كالمجنون في أحكامه مما يشبه الجنون الذي هو به ، ثم طلبنا الوجه في ذلك من أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فوجدنا الربيع بن سليمان المرادي قد حدثنا ، قال : حدثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أتي عمر بن عبد العزيز بسكران فقيل : إنه طلق امرأته ، فكان رأي عمر أن يجلده وأن يفرق بينه وبينها ، فحدثه أبان بن عثمان أن عثمان قال : ليس للمجنون ولا للسكران طلاق ، فقال عمر : هذا يخبرني عن عثمان ، فجلده ورد امرأته ، قال الزهري : فذكرته لرجاء بن حيوة ، فقال : قرأ علينا عبد الملك بن مروان كتابا من معاوية فيه السنن : أن كل طلاق جائز إلا طلاق المجنون .

[ ص: 244 ] فقال قائل : فقد رويت عن عثمان ما قد رويته في هذا الباب ورويت فيه عن معاوية ما يخالفه فيه ، وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام .

فذكر ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا بشر بن عمر الزهراني ، قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، قال : سمعت إبراهيم ، عن عابس بن ربيعة أن عليا عليه السلام ، قال : من طلق أجزنا طلاقه إلا طلاق المعتوه .

[ ص: 245 ]

وما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عابس بن ربيعة ، عن علي ، قال : كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه .

[ ص: 246 ] وكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أن الذي رويناه عن علي ، وعن معاوية ، ليس بمخالف لما رويناه عن عثمان مما ذكرنا ; لأن العته قد يكون من الجنون وقد يكون من السكر كما يكون من الجنون ، فعاد معنى قولهما في ذلك إلى قول عثمان فيه .

فقال قائل : إن السكران وإن كان قد ذهب عقله بسكره ، فهو الذي أدخل السكر على نفسه بفعله ، فلم يكن إذ كان كذلك كالمجنون الذي دخل عليه الجنون من غير فعله .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنا رأينا المجنون لا تختلف أحكامه في حال جنونه باختلاف أسباب جنونه في أن يكون بأفعاله ، وفي أخذه أشياء كانت أسبابا لذهاب عقله ، وفي حدوث الجنون به مما لا سبب له فيه في لزوم أحكام المجانين إياه في سقوط الفروض عنهم ، وفي ارتفاع العمد عنهم في جناياتهم في القتل حتى لا يكون عليهم فيه قود ، وحتى يكون ديات من قتلوا على عواقلهم ، ولما كان ذلك كذلك ، وكان المراعى في ذهاب عقول الأصحاء ذهاب عقولهم لا الأسباب التي كانت أسبابا لذهاب عقولهم ، كان كذلك السكران يكون عليه ذهاب عقله لا السبب الذي كان به ذهب عقله ، فيكون بذهاب عقله له حكم من لا عقل له ، ولا يراعى في ذلك اختلاف أسباب ذهاب عقله ، ومثل ذلك أيضا ما قد أجمع [ ص: 247 ] عليه في الصحيح المطيق للصلاة قائما الذي فرض الله - عز وجل - عليه أن يصليها كذلك لو كسر رجله حتى عاد عاجزا عن القيام للصلاة ، وأن يصليها كذلك ، أن فرضه أن يصليها قاعدا على ما يطيق صلاتها عليه ، وأن ذلك مما يكون حكمه فيه في العجز عن القيام وصلاته كذلك في حكم العجز عن القيام بما يحل به مما يعيده إلى تلك الحال من أفعال الله جل وعز به ، ثم من أفعال عباده مثله به ، وأنه لا يجب عليه قضاء الصلاة قائما وإن عاد إلى القدرة على ذلك ، وفيما ذكرنا دليل على أن طلاق السكران وسائر أقواله وسائر أفعاله يعود إلى أحكام أقوال ذاهبي العقول سواه ، وإلى أحكام أفعال ذاهبي العقول سواه ، وهذا خلاف ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي يقولونه فيه ، وخلاف ما كان مالك يقوله فيه من إجازتهم طلاقه ، غير أن مالكا قال : لو علمت أنه لم يكن يعقل ما أجزت طلاقه ، فكأنه أعذر من غيره في ذلك لا أنه قد كان يلزمه أن لا يطلق بالشك حتى يعلم باليقين وجوب الطلاق ; لأن ما علم يقينا لم يرتفع إلا بما يزيله يقينا ، كذلك فرائض الله - عز وجل - على عباده في صلواتهم وفيما سواها من عباداتهم ، وما رأينا فقيها ممن ينسب إليه النظر من أهل الفرق إلا على ما ذكرناه ، وهو القول عندنا الذي لا يجوز خلافه ، ولا يسع ذا فهم أن يتقلد غيره ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية