الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        فيما يصح من تصرفات المحجور عليه بالسفه ، وما لا يصح

                                                                                                                                                                        وفيه مسائل .

                                                                                                                                                                        الأولى : لا تصح منه العقود التي هي مظنة الضرر المالي ، كالبيع ، والشراء ، والإعتاق ، والكتابة ، والهبة ، والنكاح ، وسواء اشترى بعين أو في الذمة وفي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 184 ] الشراء في الذمة وجه ، أنه يصح تخريجا من العبد ، وليس بشيء . وإذا باع وأقبض ، استرد من المشتري ، فإن تلف في يده ، ضمن . ولو اشترى وقبض ، أو استقرض فتلف المأخوذ في يده ، أو أتلفه ، فلا ضمان لأن الذي أقبضه هو المضيع ، ويسترد وليه الثمن إن كان أقبضه . وسواء كان من عامله عالما بحاله ، أم جاهلا لتقصيره بالبحث عن حاله . ولا يجب على السفيه أيضا الضمان بعد فك الحجر ؛ لأنه حجر ضرب لمصلحته فأشبه الصبي ، لكن الصبي لا يأثم ، والسفيه يأثم لأنه مكلف . وفي وجه ، يضمن بعد فك الحجر إن كان أتلفه بنفسه ، وهو شاذ .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا إذا أقبضه البائع الرشيد . فأما إذا أقبضه السفيه بغير إذن البائع ، أو أقبضه البائع ، وهو صبي أو محجور عليه بسفه ، فإنه يضمنه بالقبض قطعا ، صرح به أصحابنا وفقهه ظاهر . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        هذا كله إذا استقل بهذه التصرفات ، فأما إذا أذن له الولي ، فإن أطلق الإذن ، فهو لغو وإن عين تصرفا وقدر العوض ، فوجهان . أصحهما عند الغزالي : الصحة ، كما لو أذن في النكاح ، فإنه يصح قطعا ، وإن كان بعضهم قد أشار إلى طرد الخلاف فيه . وأصحهما عند البغوي : لا يصح كما لو أذن للصبي .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الثاني أصح عند الأكثرين منهم الجرجاني ، والرافعي في " المحرر " وجزم به الروياني في الحلية . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ويجري الوجهان فيما لو وكله رجل بشيء من هذه التصرفات ، هل يصح عقده للموكل ، وفيما لو اتهب أو قبل الوصية لنفسه .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : صحة إتهابه وبه قطع الجرجاني . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 185 ] ولو أودعه إنسان شيئا فتلف عنده ، فلا ضمان عليه . وإن أتلفه ، فقولان كما لو أودع صبيا .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : لو أقر بدين معاملة لم يقبل ، سواء أسنده إلى ما قبل الحجر أو بعده ، كالصبي . وفيما إذا أسنده إلى ما قبل الحجر ، وجه أنه يصح تخريجا من المفلس على قول ، وليس شيء . ولو أقر بإتلاف أو جناية توجب المال ، لم يقبل على الأظهر كدين المعاملة . ثم ما رددناه من إقراره لا يؤاخذ به بعد فك الحجر . ولو أقر بما يوجب حدا أو قصاصا ، قبل . ولو أقر بسرقة توجب القطع قبل في القطع . وفي المال قولان كالعبد إذا أقر بالسرقة . هذا إن لم يقبل إقراره بالإتلاف . فإن قبلناه فهنا أولى . ولو أقر بقصاص وعفا المستحق على مال ثبت على الصحيح ؛ لأنه يتعلق باختيار غيره ، لا بإقراره . ولو أقر بنسب ، ثبت وينفق على الولد المستلحق من بيت المال .

                                                                                                                                                                        قلت : كذا قال الأصحاب في كل طرقهم : يقبل إقراره بالنسب ، وينفق عليه من بيت المال قطعا . وشذ الروياني فقال في " الحلية " : يقبل إقراره بالنسب في أصح الوجهين ، وينفق عليه من ماله ، وهذا شاذ نبهت عليه لئلا يغتر به . ولو أقر بالاستيلاد ، لم يقبل . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ومن ادعى عليه دين معاملة قبل الحجر وأقام بينة سمعت ، فإن لم تكن بينة ، وقلنا : النكول ورد اليمين كالبينة ، سمعت ، وإن قلنا : كالإقرار فلا .

                                                                                                                                                                        الثالثة : يصح طلاقه وخلعه ، وظهاره ، ورجعته ، ونفيه النسب باللعان ، وشبه ذلك ، إذ لا تعلق لها بالمال . ولو كان السفيه مطلقا مع حاجته إلى النكاح ، سري بجارية فإن تضجر منها ، أبدلت .

                                                                                                                                                                        الرابعة : حكمه في العبادات ، كالرشيد ، لكن لا يفرق الزكاة بنفسه ولو أحرم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 186 ] بغير إذن الولي
                                                                                                                                                                        ، انعقد إحرامه . فإن أحرم بحج تطوع ، وزاد ما يحتاج إليه في سفره على نفقته المعهودة ، ولم يكن له في طريقه كسب يفي بتلك الزيادة ، فللولي منعه . ثم المذهب وبه قطع الأكثرون ، أنه كالمحصر يتحلل بالصوم ، إذا قلنا : لدم الإحصار بدل ؛ لأنه ممنوع من المال ، ونقل الإمام فيه وجهين : هذا ، والثاني أن عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمحصر ، بل هو كالمفلس الفاقد للزاد والراحلة ، لا يتحلل إلا بلقاء البيت . وإن لم يزد ما يحتاج إليه على النفقة المعهودة ، أو كان يكتسب في الطريق ما يفي بالزيادة ، لم يمنعه الولي ، بل ينفق عليه من ماله ، ولم يسلمه إليه ، بل إلى ثقة لينفق عليه في الطريق . وإن أحرم بحجة مفروضة ، كحجة الإسلام والنذر قبل الحجر ، لم ينفق عليه الولي كما ذكرنا . قال في " التتمة " : والمنذورة بعد الحجر ، كالمنذورة قبله إن سلكنا بالنذر مسلك واجب الشرع ، وإلا فهي كحجة التطوع .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو أفسد حجه المفروض بالجماع ، لزمه المضي فيه والقضاء . وهل يعطيه الولي نفقة القضاء ؟ وجهان . حكاهما الماوردي . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو نذر التصدق بعين مال ، لم يصح . وفي الذمة ينعقد . ولو حلف ، انعقدت بيمينه ويكفر عند الحنث بالصوم كالعبد .

                                                                                                                                                                        قلت : وفيه وجه حكاه صاحب " الحاوي " ، والقاضي حسين ، والمتولي : أنه يلزمه التكفير بالمال ، فيجب على الولي إخراج الكفارة من مال السفيه . قال القاضي : فإن كثر حنثه ، لزمه الكفارة ، ولا يخرجها الولي ، ولا يصح صومه ، بل تبقى عليه حتى يعسر ، فيصوم إذا قلنا : الاعتبار في الكفارة بحال الأداء . وإذا قلنا : بالصحيح أن واجبه الصوم ، فلم يصم حتى فك حجره . قال الماوردي : إن قلنا يعتبر في الكفارة حال الأداء ، لم يجزئه الصوم مع اليسار . وإن اعتبرنا حال الوجوب ، [ ص: 187 ] ففي إجزاء الصوم وجهان ؛ لأنه كان من أهل الصوم ، إلا أنه كان موسرا . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية