الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 290 ] 757 - باب بيان مشكل ما اختلف أهل العلم في كيفية الشهادات في الحقوق عند الحكام بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .

حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي ، قال : حدثنا عارم بن الفضل ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم أن عبد الرحمن بن يزيد شهد بشهادة عند يزيد بن أبي مسلم ، فقال : أتشهد بشهادة الله - عز وجل ؟ قال : أشهد شهادة نفسي ، فأعاد عليه مرتين كل ذلك يقول : أشهد شهادة نفسي .

حكى لنا علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد ، قال : حدثنا حجاج [ ص: 291 ] يعني : ابن محمد ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، أن يزيد بن أبي مسلم ، قال له : أتشهد بشهادة الله ؟ فقال : لا ، ولكني أشهد شهادتي ، قال حجاج : قال شعبة : وشهدت عند سوار ، فقال لي : أتشهد بشهادة الله - عز وجل ؟ فقلت : لا ، وحدثته بهذا الحديث ، فقال : لعمري بشهادتك .

قال أبو جعفر : فكان في هذه الحكاية ، عن سوار طلبه الشهادة من شعبة على ما حضر ليشهد به عنده ، أن تكون شهادته على ذلك عنده بشهادة الله - عز وجل - على ما يشهد به ، وهذا القول فقد وجدنا فقهاء الأمصار جميعا على خلافه ، وأن الشهادة المطلوبة في ذلك شهادة الشهود على شهادات أنفسهم ، لا على شهادة الله بها على من يشهدون بها عليه .

وقد روي مثل ذلك عن شريح .

كما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب وهشام ، عن محمد بن سيرين : أن رجلا شهد عند شريح بشهادة ، فقال : أشهد بشهادة الله ، فقال شريح : لا تقل شهادة الله ، فإن الله لا يشهد إلا على حق ، ولكن اشهد بشهادتك .

[ ص: 292 ] ثم نظرنا : هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء يدل على المستعمل فيها أم لا . ؟

4802 - فوجدنا فهد بن سليمان قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : حدثني عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي ، فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي ، وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ، لا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه ، وإلا بعته ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي ، فقال : أوليس قد ابتعته منك ؟ فقال الأعرابي : لا والله ما بعتك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بلى ، قد ابتعته منك ، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان ، وطفق الأعرابي يقول : هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك ، فمر رجل من المسلمين ، فقال الأعرابي : ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول [ ص: 293 ] إلا حقا ، حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي وهو يقول : هلم شهيدا يشهد لك أني قد بايعتك ، فقال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته ، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة ، فقال : بم تشهد ، فقال : بتصديقك يا رسول الله ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين ، قال : فكان في هذا الحديث من شهادة خزيمة على الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند حاجته إلى الشهادة له على ما جحده إياه الأعرابي بأن شهد له على بيعه إياه ، لا على أن شهد له بشهادة الله - عز وجل - على بيعه إياه ، فاستحق بذلك الشرف والرتبة التي خصه الله بهما ، فدل ذلك أن الشهادات كلها عند الحكام على الحقوق كذلك ، لا على ما كان سوار ذهب إليه فيه .

ثم وجدنا ما هو أعلى من هذا وهو ما ذكره الله في كتابه في آية اللعان من قوله - عز وجل - : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ، ولم يقل شهادة أحدهم بشهادة الله - عز وجل - بما يشهد به في اللعان ، وفي ذلك دليل على كيفية الشهادات على الحقوق [ ص: 294 ] أنها كما ذكرنا ، لا على ما كان سوار كلف شعبة في شهادته عنده ، وفي ذلك معنى يجب أن يوقف عليه ، وهو أن الله - عز وجل - يعلم حقائق الأشياء التي لا يعلمها خلقه ، وكان قد يجوز أن يشهد الرجل للرجل على وجوب حق له عليه ، ثم يبرأ إليه منه ، ويعلم الله ذلك منه ، ويخفى على المخلوقين ، فيسع من كان علم وجوب الحق في البدء أن يشهد بوجوبه لمدعيه على المدعى عليه ، والله يشهد فيه بخلاف ذلك مما قد أخفاه على خلقه ، وفيما ذكرنا ما قد دل على ما وصفنا مما بيناه في هذا الباب ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية