الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين ; لم يكن عليه [ ص: 235 ] أن يوفي بنذره بل ينهى عن ذلك . ولو نذر السفر إلى مسجده أو المسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي : أظهرهما عنه يجب ذلك وهو مذهب مالك وأحمد . والثاني لا يجب وهو مذهب أبي حنيفة لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجبا بالشرع وإتيان هذين المسجدين ليس واجبا بالشرع فلا يجب بالنذر عنده . وأما الأكثرون فيقولون هو طاعة لله وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } . وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه ؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل : زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعظمه . وقد قيل إن ذلك ككراهية زيارة القبور وقيل لأن الزائر أفضل من المزور وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك . والصحيح أن ذلك لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره : [ ص: 236 ] زيارة شرعية وزيارة بدعية .

                فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة فهذه الزيارة الشرعية .

                والثاني : أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم ; أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت ; أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها .

                فإذا كان لفظ " الزيارة " مجملا يحتمل حقا وباطلا عدل عنه إلى لفظ . لا لبس فيه كلفظ " السلام " عليه ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روي في زيارة قبره أو زيارته بعد موته فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة } هذا هو الثابت في الصحيح ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال قبري . وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد صلوات الله وسلامه عليه ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة لما تنازعوا في موضع دفنه ولو كان هذا عندهم لكان نصا في محل النزاع . ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه .

                ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك وكان نائبه على المدينة [ ص: 237 ] عمر بن عبد العزيز أمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد ودخلت حجرة عائشة في المسجد من حينئذ وبنوا الحائط البراني مسنما محرفا فإنه ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلم { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } لأن ذلك يشبه السجود لها وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله تعالى .

                وكما نهي عن اتخاذها مساجد ونهي عن قصد الصلاة عندها وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له . فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها فقد قصد نفس المحرم الذي سد الله ورسوله ذريعته وهذا بخلاف السلام المشروع حسبما تقدم .

                وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام } رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه وروي نحوه عن أبي هريرة . فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة .

                وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي يومئذ فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة } . وفي مسند الإمام أحمد : حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي [ ص: 238 ] ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } ورواه أبو داود . قال القاضي عياض وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا أبلغته } . وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة وليس هذا من حديث الأعمش .

                وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حبان عن أبي بكر الحنفي : حدثنا عبد الله بن نافع حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ولا تتخذوا بيتي عيدا . صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني } .

                وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء . وروي هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب ذكره أبو عبد الله محمد بن [ عبد ] الواحد المقدسي الحافظ في مختاره الذي [ ص: 239 ] هو أصح من صحيح الحاكم . وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال : إذا دخلت فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية