الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 334 ] 762 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الحجر على السفيه في ماله ، وفي نفي الحجر عنه .

4854 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالكا أخبره ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر . وحدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت فقل لا خلابة . فكان الرجل إذا باع يقول : لا خلابة .

[ ص: 335 ]

4855 - وحدثنا نصر بن مرزوق ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، أنه سمع ابن عمر يقول ، ثم ذكر مثله .

4856 - وحدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثني حجاج بن رشدين ، عن حيوة ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رجلا كان ثقيل اللسان ، كان إذا بايع الناس غبنوه في البيع ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت أحدا ، فقل هاء ولا خلابة .

قال أبو جعفر : فكان في هذا إعلام ذلك الرجل أو إعلام غيره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع ، فلم يحجر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 336 ] ولا قبض يده عن ماله من أجله .

فقال قائل : في ذلك ما قد دل على نفي الحجر على البالغين غير المجانين ، وممن كان يذهب إلى ذلك أبو حنيفة ، وقد تقدمه فيه محمد بن سيرين .

كما حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد : أنه كان لا يعد الحجر شيئا .

وكما حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا سليم بن أخضر ، عن ابن عون ، عن محمد : أنه كان لا يعرف الحجر ، ولا يرى شيئا .

فكان من الحجة على من ذهب إلى هذا القول واحتجاجه له بما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا احتجاجه له به في هذا الباب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق لذلك الرجل البيع إلا باشتراطه فيه ، أنه لا خلابة فيه ، وفي ذلك ما قد دل على أن البيع الذي أطلقه له ليس كبيع من سواه ممن لا يخدع في البيع ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يبيع حاضر لباد ، وقال : " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " .

[ ص: 337 ]

4857 - حدثناه يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الذي روي في إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل البيع مع اشتراطه أن لا خلابة فيه ، ما قد دل أن بيعه بيع مردود إلى اعتبار من يتولى عليه إياه ، فإن كانت فيه خلابة أبطله ، وإن لم يكن فيه خلابة أمضاه ، وفي ذلك ما قد دل على وقوع اليد عليه لا على ارتفاعها عنه .

[ ص: 338 ]

4858 - وقد حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، عن سفيان ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر أن حبان بن منقذ كان شج في رأسه مأمومة ، فثقل لسانه ، فكان يخدع في البيع ، فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ابتاع من شيء فهو فيه بالخيار ثلاثا ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل لا خلابة ، قال ابن عمر : فسمعته يقول : لا خذابة لا خذابة ، فكان في هذا الحديث ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لحبان - وهو هذا الرجل المذكور في هذه الآثار فيما يبتاعه - الخيار ثلاثة أيام ، ليعتبر بيعه ، فيمضي أو يرد على ما رويناه قبله في قصته في هذا الباب ، وذلك حجر عليه في ماله لا إطلاق له فيه .

4859 - وقد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا يوسف بن حماد المعني ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، يعني : ابن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة [ ص: 339 ] عن أنس : أن رجلا كان في عقله ضعف ، وكان يبايع وأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله احجر عليه ، فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاه ، فقال : يا نبي الله ، إني لا أصبر عن البيع ، قال : فإذا بايعت فقل : لا خلابة .

قال : ففي هذا الحديث ، أن أهل حبان سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه فلم ينكر ذلك عليهم من قولهم ، وأمره بمثل ما في حديث عبد الله بن عمر في قصته وفي ذلك ما قد دل على الحجر على مثله في ماله ، وأن يده لا تنطلق فيه إلا فيما يطلقها من يتولى عليه فيه .

ثم قد وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفائه الراشدين [ ص: 340 ] المهديين ، وممن سواهم منهم على إثبات الحجر ، فيمن يستحقه فمن ذلك .

ما قد حدثنا أحمد بن أبي عمران ، قال : أخبرنا محمد بن سماعة ، قال : سمعت أبا يوسف يقول .

وما قد حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد ، قال : أخبرنا بشر بن الوليد الكندي ، قال : أخبرنا أبو يوسف ، ثم اجتمعا فقالا ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير ، فقال : إني ابتعت بيعا ، وإن عليا عليه السلام يريد أن يحجر علي ، فقال الزبير : فأنا شريكك في البيع ، فأتى علي عثمان - رضي الله عنه - فسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر ، فقال الزبير : أنا شريكه في هذا البيع ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ؟ .

ففي هذا الحديث ، أن عليا عليه السلام حاول الحجر على عبد الله بن جعفر ، وأن الزبير لما وقف على ذلك سأل عبد الله بن جعفر أن يشركه في ذلك البيع الذي حاول علي الحجر عليه من أجله ليرتفع بذلك عنه ما خافه على نفسه من عثمان فيه ، ووقوف عثمان على ذلك [ ص: 341 ] ومحاجته عليا شركة الزبير عبد الله بن جعفر في ذلك ، وكان في ذلك ما قد دل أنه لولا شركة الزبير إياه فيه حجر عليه ، ورأى عبد الله بن جعفر ذلك لخوفه على نفسه من عثمان أن يحجر عليه من أجله ، وكان ذلك منهم جميعا بمحضر من حضرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواهم ، فلم ينكروا ذلك عليهم ، ولم يخالفوهم فيه ، فدل ذلك على متابعتهم إياهم عليه .

حدثنا يونس ، قال : أخبرني أنس بن عياض ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله : متى ينقضي يتم اليتيم ؟ فكتب إليه ابن عباس : كتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم ؟ ولعمري ، إن الرجل تنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ، ضعيف الإعطاء منها ، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس ، فقد انقطع عنه اليتم .

[ ص: 342 ] فهذا ابن عباس أيضا ، قد كان منه ما قد وافق من قد ذكرناه قبله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الحجر .

وقد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، عن أبيه ، قال : سمعت النعمان بن راشد يحدث ، عن الزهري ، عن عروة أن عائشة بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها تبيع بعض عقارها ، فقال : لتنتهين أو لأحجرن عليها ، فقالت : أوقاله ؟ ! لله - عز وجل - علي ألا أكلمه أبدا .

وحدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، قال : حدثنا ابن شابور ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري [ ص: 343 ] أنه حدثه ، قال : حدثني الطفيل بن الحارث ، وكان أخا عائشة من أمها ، وكان رجلا من أزد شنوءة ، أنه بلغ ابن الزبير أن عائشة تبيع بعض رباعها ، ثم ذكر مثله .

وحدثنا الحسن بن غليب ، قال : حدثنا سعيد بن كثير بن عفير ، قال : حدثني الليث بن سعد ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن عوف بن الحارث بن الطفيل ، وهو ابن أخي عائشة لأمها ، أن عائشة حدثته أن عبد الله بن الزبير ، ثم ذكر مثله .

وحدثنا فهد وهارون بن كامل قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، ثم ذكر بإسناده مثله .

[ ص: 344 ] ففي هذا الحديث ، عن ابن الزبير ما فيه عنه ، وفيه عن عائشة ما فيه عنها ، مما لا إنكار فيه منها للحجر ، ومن تركها أن تقول وهل يكون أحد محجورا عليه بفعله في ماله مثل الذي بلغ ابن الزبير أنها تفعله في مالها ، فكيف يجوز لأحد الخروج عن أقوال من ذكرنا إلى ما يخالفه ؟

فقال قائل : فقد وجدنا في نفي الحجر ما هو أقوى من هذا ، وهو قول الله - عز وجل - : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ، ثم قال بعد ذلك : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ، فذكر في أول القصة المداينة ممن قد ذكر في آخرها ، أنه قد يكون سفيها أو ضعيفا ، وفي ذلك ما قد دل على جواز بيعه في حال سفهه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله جل وعز وعونه : أن السفه قد يكون في تضييع المال ، وقد يكون فيما سواه مما لا تضييع للمال معه ، كذلك هو في كلام العرب يقولون : سفه فلان في ماله ، سفه فلان في دينه ، ومنه قول الله - عز وجل : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه .

قال أبو جعفر : وسمعت ولادا النحوي يقول : حدثني المصادري ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، قال : سفه نفسه : أهلكها وأوبقها ، وقد يكون ذلك ممن يكون معه من الحزم في ماله ما ليس مع من لا يختلف في صلاحه في دينه .

[ ص: 345 ] وقال الكسائي : السفيه الذي يعرف الحق ، وينحرف عنه عنادا ، وقرأ : أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ، قال : يقول الذين عرفوا الأمر وعندوا عنه ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد تقدمت روايتنا له فيما قد تقدم من كتابنا هذا في الكبر ، أنه من يدفع الحق ، وفي ذلك ما قد دل أنه أريد بذلك من معه معرفة والعنود عنها ، والتمسك بضدها ، ففي ذلك ما قد دل : أن السفه المذكور في الآية التي تلونا ليس على سفه الفساد في المال ، ولكنه على ما سواه من وجوه السفه .

وقد قال قائل : إن هذه الآية التي تأولنا أدل أنه في القرآن على استعمال الحجر - وهو الشافعي - قال : لأن فيها فليملل وليه بالعدل فكان من حجتنا عليه في دفع ما تأولها عليه في أول الآية من مداينة من قد وصف في آخرها بالسفه ، وفي ذلك ما يدفع ما قال .

فإن قال قائل : فمن وليه المراد في آخر هذه الآية ؟ كان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه ولي الدين الذي هو عليه ، وفي الآية ما قد دل على هذا ، وهي قوله - عز وجل : وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ، فلو كان وليه هو الذي يتولى عليه كما ذكر هذا القائل ، لم يخاطب بهذا الخطاب ; لأنه لا يجر إلى نفسه ببخسه شيئا ، ولكنه حذر من ذلك خوفا عليه أن ينقص الذي له عليه الدين طائفة مما عليه منه .

وفيما ذكرنا دليل واضح على فساد ذلك التأويل ، غير أن مذهبا في الحجر استعماله والحكم به ، وحفظ المال على من يملكه إذا كان [ ص: 346 ] مخوفا عليه منه ، وقد دخل أبو حنيفة في بعض هذا ، فقال : إني أمنعه بعد بلوغه من ماله حتى يستكمل خمسا وعشرين سنة ، ولا أرد أفعاله فيه ، وهذا من القول الذي لا يشكل فساده على أحد ; لأنه إن كان يمنعه من ماله ليحفظه عليه من إتلافه فيما لا يجب إتلافه فيه ، فإن أفعاله التي فيها تلفه هي التي حفظ المال عليه من أجلها ، وإن كان لا يمنعه مع حفظه إياه عليه من إتلافه إياه على نفسه فلا معنى لحفظه إياه عليه ، ويقول مع هذا فيما فعله من يستحق الحجر عليه في ماله قبل أن يحجر عليه الحاكم ، ما قد اختلف فيه أبو يوسف ومحمد ، فأجاز ذلك أبو يوسف منه ، وأبطله محمد بن الحسن ، فراعى أحواله لا حكم الحاكم عليه ، فنذهب إلى : أن قول محمد في ذلك أولى القولين عندنا ; لأن الحجر إنما يكون لمعنى من أجله يحجر الحاكم على من فيه ذلك المعنى ، فيكون بحجره عليه مخففا له بكونه فيه قبل حجره عليه ، وهو مذهب مالك بن أنس في ذلك والله - عز وجل - نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية