الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا شروع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      والتصريح بالنهي في قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى : " غير محلي الصيد وأنتم حرم " ; لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه ، واللام في " الصيد " للعهد حسبما سلف ، وحرم جمع حرام ، وهو المحرم وإن كان في الحل ، وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالا ، كردح جمع رداح . والجملة حال من فاعل " لا تقتلوا " ; أي : لا تقتلوه وأنتم محرمون .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قتله ; أي : الصيد المعهود ، وذكر القتل في الموضعين دون الذبح ، للإيذان بكونه في حكم الميتة .

                                                                                                                                                                                                                                      منكم متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل " قتله " ; أي : كائنا منكم .

                                                                                                                                                                                                                                      متعمدا حال منه أيضا ذاكرا لإحرامه ، عالما بحرمة قتل ما يقتله ، والتقييد بالتعمد ، مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ ، لما أن الآية نزلت في المتعمد ، كما مر من قصة أبي اليسر ، ولأن الأصل فعل المتعمد ، والخطأ لاحق به للتغليظ .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : لا أرى في الخطأ شيئا أخذا باشتراط التعمد في الآية ، وهو قول داود . وعن مجاهد والحسن : أن المراد بالتعمد : هو تعمد القتل مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه ; فلا حكم عليه وأمره إلى الله عز وجل ; لأنه أعظم من أن يكون له كفارة .

                                                                                                                                                                                                                                      فجزاء مثل ما قتل برفعهما ; أي : فعليه جزاء مماثل لما قتله ، وقرئ برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر ، وقرئ بجر الثاني على إضافته إلى مفعوله ، وقرئ : ( فجزاؤه مثل ما قتل ) على الابتداء والخبرية ، وقرئ بنصبهما على تقدير فليجز جزاء ، أو فعليه أن يجزى جزاء مثل ما قتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد به عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما : المثل باعتبار القيمة يقوم يوم الصيد حيث صيد ، أو في أقرب الأماكن إليه ، فإن بلغت قيمته قيمة هدي ، يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم ، وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعا من غيره ، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما ، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به ، أو صام عنه يوما كاملا ; إذ لم يعهد في الشرع صوم ما دونه .

                                                                                                                                                                                                                                      فيكون قوله تعالى : من النعم بيانا للهدي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير ، فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم .

                                                                                                                                                                                                                                      وعند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما : هو المثل باعتبار الخلقة والهيئة ; لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم ، فمن اعتبر [ ص: 80 ] المثل بالقيمة فقد خالف النص .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم أوجبوا في النعامة بدنة ، وفي الظبي شاة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي الأرنب عناقا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الضبع صيد وفيه شاة إذا قتله المحرم " . ولنا أن النص أوجب المثل ، والمثل المطلق في الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة والمعقول ، يراد به : إما المثل صورة ومعنى ، وإما المثل صورة بلا معنى ; فلا اعتبار له في الشرع أصلا ، وإذا لم يمكن إرادة الأول إجماعا تعينت إرادة الثاني ، لكونه معهودا في الشرع كما في حقوق العباد ، ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوع واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبرها الشرع ، ولم يجعل الحيوان عند الإتلاف مضمونا بفرد آخر من نوعه مماثل له في عامة الأوصاف ، بل مضمونا بقيمته ، مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل ، قال تعالى : فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، فحيث لم تعتبر تلك المماثلة القوية مع تيسر معرفتها وسهولة مراعاتها ، فلئلا تعتبر ما بين أفراد أنواع مختلفة من المماثلة الضعيفة الخفية ، مع صعوبة مأخذها وتعسر المحافظة عليها أولى وأحرى ، ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظير له إجماعا ، فلم يبق غيره مرادا ; إذ لا عموم للمشترك في مواقع الإثبات .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالمروي : إيجاب النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العين ، ثم الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول ، إنما هو قيمته ، لكن لا باعتبار أن يعمد الجاني إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء ، بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث ، فيقيمها مقامها ، فقوله تعالى : " مثل ما قتل " وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال ، وأما قوله تعالى : " من النعم " فوصف له معتبر في ثاني الحال ، بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام ، فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم ، فضلا عن العطف على الموصوف ، كما سيأتي بإذن الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل : هو القيمة ، قوله عز وجل : يحكم به ; أي : بمثل ما قتل .

                                                                                                                                                                                                                                      ذوا عدل منكم ; أي : حكمان عادلان من المسلمين ، لكن لا ; لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العدول ، دون الأشياء المشاهدة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس ، فإن ذلك ناشئ من الغفلة عما أرادوا بما به المماثلة ، بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النعم من ضرب مشاكلة ، ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال ، مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد ، وصناديد أهل الهداية والإرشاد ، إلا المؤيدون بالقوة القدسية ، ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاة ; بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة ، من حيث إن كلا منهما يعب ويهدر ، مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون ، فكيف يفوض معرفة أمثال هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص ، فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ، ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ : ( يحكم به ذو عدل ) على إرادة جنس العادل دون الوحدة . وقيل : بل على إرادة الإمام . والجملة صفة لجزاء ، أو حال منه لتخصصه بالصفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : هديا حال مقدرة من الضمير في " به " ، أو " من جزاء " لما ذكر من تخصصه بالصفة ، أو بدل من " مثل " فيمن نصبه ، أو " من محله " فيمن جره ، أو نصب على المصدر ; أي : يهديه هديا ، والجملة صفة أخرى لجزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      بالغ الكعبة صفة لهديا ; لأن الإضافة غير حقيقية .

                                                                                                                                                                                                                                      أو كفارة عطف على محل " من النعم " على أنه خبر [ ص: 81 ] مبتدأ محذوف ، والجملة صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : طعام مساكين عطف بيان لكفارة عند من لا يخصصه بالمعارف ، أو بدل منه ، أو خبر مبتدأ محذوف ; أي : هي طعام مساكين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : أو عدل ذلك صياما عطف على " طعام " ... إلخ ، كأنه قيل : فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم ، أو طعام مساكين ، أو صيام أيام بعددهم ، فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي ، والطعام ، والصيام ، أما الأولان فبلا واسطة ، وأما الثالث فبواسطة الثاني ، فيختار الجاني كلا منها بدلا من الآخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا وقد قيل : إن قوله تعالى : " أو كفارة " عطف على جزاء ، فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام ، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى ، هذا على قراءة ( جزاء ) بالرفع وعلى سائر القراءات .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله تعالى : " أو كفارة " خبر مبتدأ محذوف ، والجملة معطوفة على جملة هو من النعم . وقرئ : ( أو كفارة طعام مساكين ) بالإضافة لتبيين نوع الكفارة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ : ( طعام مسكين ) على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس . وقرئ : ( أو عدل ) بكسر العين ، والفرق بينهما أن عدل الشيء : ما عادله ، من غير جنسه كالصوم والإطعام ، وعدله : ما عدل به في المقدار ، كأن المفتوح تسمية بالمصدر ، والمكسور بمعنى المفعول ، وذلك إشارة إلى الطعام ، وصياما تمييز للعدل ، والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، وللحكمين عند محمد رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ليذوق وبال أمره متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور ; أي : فعليه جزاء ليذوق ... إلخ . وقيل : بفعل يدل عليه الكلام ، كأنه قيل : شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره ; أي : سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام ، والوبال في الأصل : المكروه ، والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله ، ومنه قوله تعالى : فأخذناه أخذا وبيلا ، ومنه : الطعام الوبيل : وهو الذي لا تستمرئه المعدة .

                                                                                                                                                                                                                                      عفا الله عما سلف من قتل الصيد محرما قبل أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : عما سلف منه في الجاهلية ; لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم ، وكان الصيد فيها محرما .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن عاد إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم .

                                                                                                                                                                                                                                      فينتقم الله منه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فهو ينتقم الله منه ، ولذلك دخلت الفاء ، كقوله تعالى : فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ; أي : فذلك لا يخاف ... إلخ ، وقوله تعالى : ومن كفر فأمتعه ; أي : فأنا أمتعه . والمراد بالانتقام : التعذيب في الآخرة ، وأما الكفارة ; فعن عطاء ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير ، والحسن : أنها واجبة على العائد . وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشريح : أنه لا كفارة عليه تعلقا بالظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      والله عزيز غالب لا يغالب .

                                                                                                                                                                                                                                      ذو انتقام شديد ، فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية