الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن قوله تعالى : ( كتب عليكم ) يقتضي الوجوب على ما بيناه ، أما قوله : ( إذا حضر أحدكم الموت ) فليس المراد منه معاينة الموت ؛ لأن في ذلك الوقت يكون عاجزا عن الإيصاء ، ثم ذكروا في تفسيره [ ص: 51 ] وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت ، وهو المرض المخوف ، وذلك ظاهر في اللغة ، يقال فيمن يخاف عليه الموت : إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد : إنه قد وصل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قول الأصم : إن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا : إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القاضي : والقول الأول أولى لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن ما ذكرناه هو الظاهر ، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( إن ترك خيرا ) فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله : ( وما تنفقوا من خير ) [ البقرة : 272 ] ، ( وإنه لحب الخير ) [ العاديات : 8 ] ( من خير فقير ) [ القصص : 24 ] وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا فرق بين القليل والكثير ، وهو قول الزهري ، فالوصية واجبة في الكل ، واحتج عليه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيرا ، والمال القليل خير ، يدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] وأيضا قوله تعالى : ( لما أنزلت إلي من خير فقير ) [ القصص : 24 ] ، وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك ، فيكون خيرا .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر ، بدليل قوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) [ النساء : 7 ] فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير ، واحتجوا عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن من ترك درهما لا يقال : إنه ترك خيرا ، كما يقال : فلان ذو مال ، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة ، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير ، وكذلك إذا قيل : فلان في نعمة ، وفي رفاهية من العيش . فإنما يراد به تكثير النعمة ، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله ، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه ، كما قد روي من قوله : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وقوله : " ليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره جائع " ونحو هذا .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك ، سواء كان قليلا ، أو كثيرا ، لما كان التقييد بقوله : ( إن ترك خيرا ) كلاما مفيدا ؛ لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئا ما ، قليلا كان أو كثيرا ، أما الذي يموت عريانا ولا يبقى معه كسرة خبز ، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته ، فذاك في غاية الندرة ، فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير ، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا ؟ فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أنه مقدر بمقدار معين ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أولا أوصي ؟ قال : لا إنما قال الله تعالى : ( إن ترك خيرا ) وليس لك كثير مال ، وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال : إني أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك ؟ قال ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك ؟ قال أربعة قالت : قال الله ( إن ترك خيرا ) وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ، وعن ابن عباس : إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى . وعن قتادة : ألف درهم ، وعن النخعي : من ألف وخمسمائة درهم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 52 ] والقول الثاني : أنه غير مقدر بمقدار معين . بل يختلف ذلك باختلاف حال الرجال ؛ لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني ، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغنى لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة ، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقا بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد ، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول : لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية