الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما قوله في الوجه الخامس: إن كل موجود يفرض مع العالم، فهو إما أن يكون مساويا للعالم أو زائدا عليه في المقدار أو أنقص منه في المقدار، فانقسام الموجود في الشاهد إلى هذه الأقسام الثلاثة للأربعة كذا حكم لا بد له من علة، ولا علة إلا الوجود، والباري تعالى موجود، فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة، والقوم لا يقولون به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الشبهة منقوضة.. ".

فيقال له: عن هذه أيضا وجوه:

أحدها أن هذه أيضا حجة إلزامية لا حقيقية، فالذي ينفي هذه الأقسام عن الباري إما أن يذكروا فرقا صحيحا أو لا يذكروه، فإن ذكروه بطل إلزامهم بذلك في حجة المباينة والمحايثة، وإن لم يذكروا فرقا صحيحا كان ذلك حجة عليهم [ ص: 396 ] في الموضوعين كما تقدم نظيره وحينئذ فلا يكون هذا حجة لا في نظر ولا في مناظرة، فإن هذا ليس هو متفقا على نفيه، بل أكثر أهل الإثبات يلتزم أحد الأقسام.

الوجه الثاني: أن يقال: هذا التقسيم باطل، فإن كل ما نشهده فهو جزء من العالم سواء كان قائما بنفسه أو بغيره فكيف يقال: فيما هو بعض العالم، إما أن يكون مساويا للعالم أو أزيد منه أو أنقص منه، ومن المعلوم أنه لا يكون إلا أنقص منه، وإذا كان لا يصح أن يكون مساويا له ولا أزيد، وبهذا يظهر أن هذا ليس نظير الحجة، فإن تلك مضمونها أن كل موجود يلزمه أحد الأمرين إما المحايثة لغيره وإما المباينة له، والوجود ينقسم إلى قسمين: محايث ومباين، ولا يمكن أن يقال: الموجود المشهود يلزمه أحد هذه الأقسام، إنما يلزمه واحد منها معين وهو النقص.

الوجه الثالث: أن هذا الذي ذكره إنما هو فيما يقدر وجوده ويفرض مع العالم ومعلوم أن ما يقدر وجوده ويفرض لا يعلم حكمه بالحس ولا بالبديهة، كما يعلم حكم الموجود المشهود المحسوس مع الموجود المشهود المحسوس، فإن تلك الحجة مبناها على ما علم بالحس والضرورة، ثم النظر هل ذلك معلل بما يتناول الوجود الواجب أو بما يخص غيره، وأما الموجودات المقدرة فحكمها لا يعلم بحس ولا ضرورة وإنما [ ص: 397 ] يعلم بالقياس على ما علم وجوده.

الوجه الرابع: أن هذا إذا كان في الوجود المقدر مع العالم فذلك الموجود إما أن يكون هو الله أو غيره، فإن كان غيره فقد علم أنه معدوم، لأن كل ما يقدر وجوده سوى الله فهو من العالم فلا يمكن تقدير موجود غير الله خارج عن مجموع خلقه. وإن كان المراد بهذا الموجود هو الله كان المعنى أن الله لا يخلو إما أن يكون أكبر من العالم أو أصغر أو بقدره، وإذا كان هذا هو المعنى المقدر فاحتجاجه بهذا على أن الباري موصوف بأحد هذه الأقسام، هو استدلال بالشيء على نفسه، فالدليل هو غير المدلول، ويكون التقدير: أن الرب الموجود مع العالم: إما أن يكون مساويا له، أو أكبر أو أصغر، وإذا كان كذلك فهو إما أن يكون مساويا أو أكبر أو أصغر، ومعلوم أن هذا باطل فضلا أن يكون نظير الحجة.

وقد ظهر بما نبهنا عليه في الكلام على هذه الحجة أن قوله: " ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها أوردنا عليه هذه الأسئلة القاهرة، والاعتراضات القادحة". ليس الأمر كما قاله، فإن الحجة لم يستوف تقريرها كما يجب، وليس ما ذكره من الاعتراض كما زعم. هذا مع أنا لم نستوف الكلام في تقريرها، ولا في الأجوبة على أسولته، لأن المقصود حكاية ما ذكره هو من الحجة، وذكر ما ينبه على الحكم العادل بينه وبين خصومه [ ص: 398 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية