الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 355 ] 765 - باب بيان مشكل ما روى بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد شهادة المحدود في الإسلام .

4866 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن يزيد بن أبي زياد الشامي ، قال : حدثنا الزهري ، عن عروة ، قال : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ، ولا ذي غمر لأخيه ، ولا مجرب عليه شهادة زور ، ولا القانع مع أهل البيت لهم ، ولا الظنين في ولاء ، ولا قرابة .

[ ص: 356 ] [ ص: 357 ] فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : لا تجوز شهادة مجلود حدا .

ووجدنا الأوزاعي قد كان يذهب هذا المذهب حتى كان يقول في المجلود في الخمر : إنه لا تقبل شهادته وإن تاب .

كما أجاز لنا محمد بن سنان الشيزري ، عن محمود بن خالد ، عن عمر بن عبد الواحد ، قال : سمعت الأوزاعي يقول : لا تجوز شهادة محدود في الإسلام ، ولا معلوم منه شهادة زور ، ولا ظنين في ولاء ، ولا قرابة ، ولا خائن ، ولا خائنة ، ولا ذي غمر على أخيه ، ولا خصم ، ولا مريب .

وكانت ألفاظ الأوزاعي في هذه الحكاية هي ألفاظ هذا الحديث غير ما في آخره من ذكر الخصم والمريب ، فوقفنا بذلك على أنه أخذ قوله هذا من ذلك الحديث إما عن يزيد الذي حدث به عنه مروان ، أو ممن هو أعلى منه ممن فوق يزيد ، وهو الزهري ، ولم نجد له على قوله : إنه لا تجوز شهادة مجلود حدا من أهل العلم موافقا غير الحسن بن صالح بن حي ، فإنا وجدنا عنه مما ذكره حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عنه أنه كان يقول : إذا ضرب القاضي رجلا في حد لم تجز شهادته أبدا ، وإن تاب ، وهذا القول مما يخالفهما فيه [ ص: 358 ] فقهاء الأمصار سواهما .

ثم تأملنا ما اختلفا وفقهاء الأمصار فيه من هذا المعنى ، فوجدنا أشياء مما قد حرمها الله - عز وجل - وتوعد عليها وغلظ العقوبات فيها من الزنى ومن السرقة ، وكانت العقوبات فيها كفارات لمصيبها ، منها قطع أيدي السراق ، ومنها إقامة حد الزنى على الأبكار من الزناة ، وهي الجلد ، وعلى الثيب منهم وهي الرجم .

ووجدنا أهل العلم لا يختلفون في قبول شهادة المقطوعين في السرقات إذا تابوا ، ولا في قبول شهادة الزناة الأبكار المحدودين إذا تابوا ، وفي ذلك ما قد دل على أن سائر المحدودين فيما سوى الزنى والسرقة كذلك أيضا ، غير ما قد أخرجه كتاب الله - عز وجل - من ذلك في حد القذف بقوله عز وجل : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ، فأبانهم - عز وجل - ممن سواهم وألزمهم الفسق الذي جعله وصفا لهم ، وأعقب ذلك بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .

وكان أهل العلم قد اختلفوا في قبول شهادتهم بعد التوبة مما قد كان هذا حكمهم ، فقال بعضهم : يزول ذلك عنهم بالتوبة ، ويرجعون إلى قبول الشهادة ، وقال بعضهم : يزول الفسق عنهم الذي عليه الوعيد ، ولا تقبل لهم شهادة أبدا ، وكان ممن ذهب إلى القول الأول أكثر أهل الحجاز ، وممن ذهب إلى القول الثاني بعض أهل الحجاز ، وكثير ممن سواهم .

[ ص: 359 ] فأما فقهاء الأمصار الذين دارت عليهم الفتيا كمالك ومن سواه من أهل الحجاز ، فيقبلون شهادتهم بعد التوبة ، وكذلك كان الشافعي يقول في هذا .

وأما أبو حنيفة والثوري وأصحابهما ، فكانوا لا يقبلونها أبدا ، ويجعلون حكمهم في ردها منهم بعد التوبة كحكمهم في ردها منهم قبل التوبة .

وقد تعلق الحجازيون والذين قبلوا شهادتهم بعد التوبة بما قد رووه عن عمر بن الخطاب مما كان قاله لأبي بكرة ، بعد حده إياه فيما كان منه في المغيرة بن شعبة .

كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك أو تب تقبل شهادتك .

[ ص: 360 ] قال : فتأملنا هذا الحديث فوجدناه قد دخل في إسناده ما يدفع أن يكون فيه حجة لمن احتج به على مخالفه .

كما قد حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري يقول : زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز ، فأشهد لأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبي بكرة : تب ، تقبل شهادتك ، أو إن تتب قبلت شهادتك ، قال : وسمعت سفيان بن عيينة يحدث به هكذا مرارا ، ثم سمعته يقول : شككت فيه ، قال الزهري : أخبرني ، فلما قمت سألت ، فقال لي عمر بن قيس وحضر المجلس معي : هو سعيد بن المسيب ، قلت لسفيان : أشككت فيه حين أخبرك أنه سعيد ، قال : لا ، غير أنه قد كان دخلني الشك .

[ ص: 361 ] قال أبو جعفر : فكان عمر المذكور في هذا الحديث ، الذي استثبت [ ص: 362 ] به سفيان فيه هو عمر بن قيس ، وهو عند أهل الرواية غير ثبت فيها ، وإذا كان كذلك لم يكن ما ثبت من قد شك في حديث يكون ذلك قطعا لشكه فيه ، ثم قد وجدنا هذا الحديث قد رواه عن الزهري من هو من أهل الثقة في روايته والقبول لها ، وهو الليث بن سعد .

كما قد حدثنا هارون بن كامل ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : حدثني ابن شهاب ، أنه بلغه أن عمر بن الخطاب استتاب أبا بكرة فيما قذف به المغيرة بن شعبة ، فأبى أن يتوب ، وزعم أن ما قال حق وأقام على ذلك ، وأصر عليه ، فلم يكن تجوز له شهادة .

وتعلقوا في ذلك أيضا .

بما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين وسعيد بن أبي مريم قالا : حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : شهد على المغيرة أربعة ، فنكل زياد فجلد عمر بن الخطاب الثلاثة واستتابهم ، فتاب اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب ، فكانت تقبل شهادتهما حين تابا ، وكان أبو بكرة لا تقبل شهادته ; لأنه أبى أن يتوب [ ص: 363 ] وكان مثل النضو من العبادة .

فقال الذين تعلقوا بالحديث الأول : هذا الحديث لا طعن فيه ، ولا يسع أحدا التخلف عن القول به ، وكان من الحجة لمخالفيه عليه بتوفيق الله - عز وجل - وعونه ، أن سعيد بن المسيب لم يأخذ هذا عن عمر سماعا منه ، وإنما أخذه عنه بلاغا ; لأن سعيدا وإن كان قد رأى عمر فإنه لا يصح له عنه سماع هذا منه ، والدليل على أن الحديث لم [ ص: 364 ] يكن عند سعيد بالقوي ، أنه قد كان يذهب إلى خلاف ما فيه .

كما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب أنهما قالا : القاذف إذا تاب ، توبته فيما بينه وبين ربه - عز وجل - ، ولا تقبل شهادته .

وكما حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، ثم ذكر بإسناده وبمتنه مثله .

فدل ذلك : أن الأولى كان عند سعيد بن المسيب ترك قبول شهادة القاذف وإن تاب ، وعقلنا أن ما حدث به عنه عن عمر لم يكن صحيحا عنده ; لأنه يستحيل عندنا أن يكون مع جلالة عمر - رضي الله عنه - وعظم قدره عنده يقول هذا القول لا سيما بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ينكرونه عليه ، ولا يخالفونه فيه ، ثم يتركه إلى خلافه .

وقال قائل ممن يذهب إلى قبول شهادة القاذف بعد توبته : قد [ ص: 365 ] روي هذا القول عن عطاء وطاوس ومجاهد .

وذكر ما قد حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثني إسماعيل ابن علية ، عن ابن أبي نجيح في القاذف إذا تاب ، قال : تقبل شهادته ، وقال : كلنا يقوله عطاء وطاوس ومجاهد .

وذكر غيره في ذلك .

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال : قلت : لعطاء : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، قال : إذا تاب قبلت شهادته .

[ ص: 366 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه قد خالفهم في ذلك من هو أجل منهم ، وهو سعيد بن المسيب ، ووافقه على ذلك مثله ممن قد قضى للخلفاء الراشدين المهديين وهو شريح .

كما قد حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا إسماعيل بن سالم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا الشيباني ، عن الشعبي ، عن شريح ، قال : لا تجوز شهادته إذا تاب ، يعني : القاذف ، توبته فيما بينه وبين ربه .

وخالفهم في ذلك من هو مثلهم أو فوقهم ، وهو الحسن البصري ، ولما اختلفوا في ذلك هذا الاختلاف نظرنا فيما اختلفوا فيه من ذلك فوجدناهم لا يختلفون في القذف : أنه لا يمنع من قبول شهادة القاذف قبل أن يحد فيها .

ألا ترى أن رجلا لو شهد على رجل بالزنى وحده ، ثم شهد بشهادة وظاهره العدل في شهادته ، وهو يقول : ما شهدت عليه إلا بحق أن شهادته مقبولة وأنه إذا حد فيها ، ثم جاء فشهد بشهادة سواها وهو مقيم على شهادته تلك أن شهادته مردودة ، وإن كان الحد الذي [ ص: 367 ] أقيم عليه طهارة له ، إن كان كاذبا في شهادته ، ولما كانت الشهادة غير مردودة بما قد جعل فيه قاذفا بظاهره ، ومردودة بإقامة العقوبة عليه فيها ، وهو الحد الذي حد فيها ، وكانت التوبة إن كانت منه بعد ذلك فإنما هي من القول الذي كان منه في الشهادة التي شهد بها ، ولم ترد شهادته بذلك القول وإنما ردت بغيره وهو الجلد ، وكان الجلد مما لا توبة فيه ، وإنما التوبة فيما قد تقدمه من الشهادة التي كان فيها قاذفا ، ولم تكن مسقطة للشهادة ، وإنما الذي أسقط الشهادة الحد الذي كان بعدها ، وكانت الشهادة بعد الجلد وقبل الجلد بمعنى واحد ، فلما كانت لا تمنع من قبول الشهادة ، وكان الذي يمنع من قبول الشهادة سواها مما هو مفعول بالشاهد ، وكانت توبته إنما تكون من أفعاله ومن أقواله لا مما فعل به كان رد شهادته بعدها على حكمه الذي كان عليه قبلها ; لأن الذي ردت به شهادته هو مما لا توبة فيه ، وإنما التوبة في غيره . وفيما ذكرنا دليل صحيح على ثبوت قول الذين ذهبوا إلى رد الشهادة بعد التوبة ممن ذكرنا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية