الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ألم يأن للذين آمنوا يقال أنى لك يأني أنى : إذا حان .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ألم يأن وقرأ الحسن ، وأبو السماك " ألما يأن " وأنشد ابن السكيت :


                                                                                                                                                                                                                                      ألما يأن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا

                                                                                                                                                                                                                                      و أن تخشع قلوبهم فاعل يأن : أي ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجيء وقته ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا     وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية نزلت في المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن : يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : نزلت في طائفة من المؤمنين ، حثوا على الرقة والخشوع ، فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السدي وغيره : المعنى ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر وأسروا الكفر أن تخشع قلوبهم لذكر الله وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قول من قال إنها نزلت في المسلمين ، والخشوع لين القلب ورقته .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعا ورقة ، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخشع له وما نزل من الحق معطوف على ذكر الله ، والمراد بما نزل من الحق القرآن ، فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان ، أو خطور بالقلب ، وقيل المراد بالذكر هو القرآن ، فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير ، أو باعتبار تغير المفهومين .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور " نزل " مشددا مبنيا للفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع ، وحفص بالتخفيف مبنيا للفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود [ ص: 1459 ] " أنزل " مبنيا للفاعل ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جريا على ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة بالفوقية على الخطاب التفاتا ، وبها قرأ عيسى ، وابن إسحاق ، والجملة معطوفة على " تخشع " : أي ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا ، والمعنى : النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن فطال عليهم الأمد أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور " الأمد " بتخفيف الدال ، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها : أي الزمن الطويل ، وقيل المراد بالأمد على القراءة الأولى الأجل والغاية ، يقال أمد فلان كذا : أي غايته فقست قلوبهم بذلك السبب ، فلذلك حرفوا وبدلوا ، فنهى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم وكثير منهم فاسقون أي خارجون عن طاعة الله لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم ، وحرفوا وبدلوا ولم يؤمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل هم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وهم أصحاب الصوامع .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها ، ويلين القلوب بعد قسوتها قد بينا لكم الآيات التي من جملتها هذه الآيات لعلكم تعقلون أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ وتعملوا بموجب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      إن المصدقين والمصدقات قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الموضعين من الصدقة ، وأصله المتصدقين والمتصدقات ، فأدغمت التاء في الصاد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي " المتصدقين والمتصدقات " بإثبات التاء على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق : أي صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأقرضوا الله قرضا حسنا معطوف على اسم الفاعل في " المصدقين " لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل الفعل ، فكأنه قال : إن الذين تصدقوا وأقرضوا كذا قال أبو علي الفارسي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل جملة وأقرضوا معترضة بين اسم إن وخبرها ، وهو يضاعف وقيل هي صلة لموصول محذوف : أي والذين أقرضوا ، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية وصحة قصد واحتساب أجر .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور يضاعف لهم بفتح العين على البناء للمفعول ، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور أو ضمير يرجع إلى " المصدقين " على حذف مضاف : أي ثوابهم ، وقرأ الأعمش " يضاعفه " بكسر العين وزيادة الهاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب يضعف بتشديد العين وفتحها ولهم أجر كريم وهو الجنة ، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين آمنوا بالله ورسله جميعا ، والإشارة بقوله : أولئك إلى الموصول ، وخبره قوله : هم الصديقون والشهداء والجملة خبر الموصول .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صديق .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المقاتلان : هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : هذه الآية للشهداء خاصة ، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم ، واختار هذا الفراء ، والزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله ، وكذا قال ابن جرير ، وقيل هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ ، والظاهر أن معنى الآية : إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعا بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الدرجة عند الله ، وقيل إن الصديقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدقوا جميع رسله ، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال : لهم أجرهم ونورهم والضمير الأول راجع إلى الموصول ، والضميران الأخيران راجعان إلى الصديقين والشهداء ، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد ، والمعنى : لهم الأجر والنور الموعودان لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم فقال : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أي جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات ، والإشارة بقوله : أولئك إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب ، وهذا مبتدأ وخبره أصحاب الجحيم يعذبون بها ولا أجر لهم ولا نور ، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن ، فأنزل الله : ألم يأن للذين آمنوا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون ، فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم ، ولقد أنزل علي في ضحككم آية ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله قالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك ؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مسلم والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ألم يأن للذين آمنوا إلا أربع سنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج نحوه عنه ابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضا قال : لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض : أي شيء أحدثنا أي شيء صنعنا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ألم يأن للذين آمنوا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي رواد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك ، فنزلت هذه الآية ألم يأن للذين آمنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قال : يعني أنه [ ص: 1460 ] يلين القلوب بعد قسوتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مؤمنو أمتي شهداء ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : كل مؤمن صديق وشهيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد ، ثم تلا هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون قال : هذه مفصولة والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني : قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا ؟ قال : من الصديقين والشهداء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية