الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما خاطب - سبحانه - أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة؛ كالبيت الحرام؛ والشهر الحرام؛ وأشار بآية البحيرة؛ وما بعدها؛ إلى أن أسلافهم لا وفروا عليهم مالهم؛ ولا نصحوا لهم في دينهم؛ وختم ذلك بقهره للعباد بالموت؛ وكشف الأسرار يوم العرض؛ بالحساب على النقير؛ والقطمير؛ والجليل؛ والحقير; عقب ذلك بآية الوصية؛ إرشادا منه - سبحانه - [ ص: 328 ] إلى ما يكشف سريرة من خان فيها؛ علما منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل؛ وحثا لهم على أن يفعلوا ما أمر - سبحانه - به؛ لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال؛ ويقتدي بهم؛ فيما ختم به الآية من التقوى؛ والسماع؛ والبعد من الفسق؛ والنزاع؛ فقال (تعالى) - مناديا لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه؛ من الإقرار بالإيمان -: يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أخبروا عن أنفسهم بذلك؛ شهادة بينكم ؛ هو كناية عن التنازع؛ والتشاجر؛ لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك؛ وسبب نزول الآية قد ذكره المفسرون؛ وذكره الشافعي في "الأم"؛ فقال: أخبرني أبو سعيد؛ معاذ بن موسى الجعفري؛ عن بكير بن معروف؛ عن مقاتل بن حيان قال: أخذت هذا التفسير عن مجاهد؛ والحسن؛ والضحاك؛ أن رجلين نصرانيين من أهل دارين؛ أحدهما تميمي؛ والآخر يماني؛ صحبهما مولى لقريش في تجارة؛ فركبوا البحر؛ ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه؛ من بين آنية وبزورقة؛ فمرض القرشي؛ فجعل وصيته إلى الداريين؛ [ ص: 329 ] فمات؛ وقبض الداريان المال؛ فدفعاه إلى أولياء الميت؛ فأنكر القوم قلة المال؛ فقالوا للداريين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به؛ فهل باع شيئا؛ أو اشترى؛ فوضع فيه؛ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا؛ قالوا: فإنكما خنتمانا؛ فقبضوا المال؛ ورفعوا أمرهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزل الله - عز وجل - يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ؛ فلما نزلت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقاما بعد الصلاة؛ فحلفا بالله رب السماوات: ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به؛ فلما حلفا خلى سبيلهما؛ ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت؛ فأخذوا الداريين؛ فقالا: اشتريناه منه في حياته؛ فكذبا؛ وكلفا البينة؛ فلم يقدرا عليها؛ فرفعوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - عز وجل - فإن عثر ؛ يعني إلى آخرها؛ ثم ذكر وقت الشهادة؛ وسببها؛ فقال: إذا حضر ؛ وقدم المفعول تهويلا - كما ذكر في "النساء" - لأن الآية نزلت لحفظ ماله؛ فكان أهم؛ فقال: أحدكم الموت ؛ أي: أخذته أسبابه الموجبة لظنه؛ [ ص: 330 ] ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمرا متعارفا؛ عرف فقال - معلقا بـ "شهادة"؛ كما علق به "إذا"؛ أو مبدلا من "إذا"؛ لأن الزمنين واحد -: حين الوصية ؛ أي: إن أوصى؛ ثم أخبر عن المبتدإ؛ فقال: اثنان ؛ أي: شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين؛ ذوا عدل منكم ؛ أي: من قبيلتكم العارفين بأحوالكم؛ أو آخران ؛ أي: ذوا عدل؛ من غيركم ؛ أي: إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي؛ وعليه؛ وقيل: بل هما الوصيان أنفسهما احتياطا؛ بجعل الوصي اثنين؛ وقيل: آخران من غير أهل دينكم؛ وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر؛ للضرورة؛ لا في غيره؛ ولا في غير السفر; ثم شرط هذه الشهادة بقوله: إن أنتم ضربتم ؛ أي: بالأرجل؛ في الأرض ؛ أي: بالسفر؛ كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضربا إلا فيه؛ لأنه موضع الجد والاجتهاد؛ فأصابتكم ؛ وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان؛ بتخصيصه بقوله: مصيبة الموت ؛ أي: أصابت الموصي المصيبة التي لا مفر منها؛ ولا مندوحة عنها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات؛ فكان في معرض السؤال عن الشهود: ماذا يفعل بهم؟ قال - مستأنفا -: تحبسونهما ؛ أي: تدعونهما إليكم؛ وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما؛ لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة؛ وأدائه; ولما كان المراد إقامة اليمين؛ [ ص: 331 ] ولو في أيسر زمن؛ لا استغراق زمن البعد بالحبس؛ أدخل الجار؛ فقال: من بعد الصلاة ؛ أي: التي هي أعظم الصلوات; فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها؛ وهي الوسطى؛ وهي العصر؛ ثم ذكر الغرض من حبسهما؛ فقال: فيقسمان بالله ؛ أي: الملك الذي له تمام القدرة؛ وكمال العلم؛ وعن ابن عباس - رضي اللـه عنهما - أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا؛ فإن كانا مسلمين فلا يمين؛ وعن غيره؛ إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما؛ وإن كان الوصيين فلا; ثم شرط لهذا الحلف شرطا؛ فقال - اعتراضا بين القسم؛ والمقسم عليه -: إن ارتبتم ؛ أي: وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة; ثم ذكر المقسم عليه بقوله: لا نشتري به ؛ أي: هذا الذي ذكرناه؛ ثمنا ؛ أي: لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي؛ وإن كان في نهاية الجلالة؛ وليس قصدنا به إلا إقامة الحق؛ ولو كان ؛ أي: الوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له؛ ذا قربى ؛ أي: لنا؛ أي: إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ؛ الآية؛ لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط؛ ولا نكتم شهادة الله ؛ أي: هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به؛ من حفظ الشهادة وتعظيمها؛ ولم نكتم شيئا وقع به الإشهاد؛ ولا نكتم فيما يستقبل شيئا نشهد به لأجل الملك الأعظم؛ المطلع على السرائر؛ كما هو مطلع على الظواهر; ثم علل ذلك بما لقنهم إياه؛ ليكون آخر كلامهم كل ذلك؛ تغليظا؛ وتنبيها [ ص: 332 ] على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان؛ فقال - تذكيرا لهم؛ وتحذيرا من التغيير -: إنا إذا ؛ أي: إذا فعلنا شيئا من التبديل؛ أو الكتم؛ لمن الآثمين

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية