الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          756 - مسألة : ولا يلزم صوم في رمضان ولا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني ، وأما ما لم يتبين فالأكل والشرب والجماع مباح كل ذلك ، كان على شك من طلوع الفجر أو على يقين من أنه لم يطلع .

                                                                                                                                                                                          فمن رأى الفجر وهو يأكل فليقذف ما في فمه من طعام أو شراب ، وليصم ، ولا قضاء عليه ; ومن رأى الفجر وهو يجامع فليترك من وقته ، وليصم ، ولا قضاء عليه ; وسواء في كل ذلك كان طلوع الفجر بعد مدة طويلة أو قريبة ، فلو توقف باهتا فلا شيء عليه ، وصومه تام ; ولو أقام عامدا فعليه الكفارة .

                                                                                                                                                                                          ومن أكل شاكا في غروب الشمس أو شرب فهو عاص له تعالى ، مفسد لصومه ، ولا يقدر على - القضاء ; فإن جامع شاكا في غروب الشمس فعليه الكفارة - : برهان ذلك - : قول الله عز وجل : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } وهذا نص ما قلنا ، لأن الله تعالى أباح الوطء والأكل والشرب إلى أن يتبين لنا الفجر ، ولم يقل تعالى : حتى يطلع الفجر ، ولا قال : حتى تشكوا في الفجر ; فلا يحل لأحد أن يقوله ، ولا أن يوجب صوما بطلوعه ما لم يتبين للمرء ، ثم أوجب الله تعالى التزام الصوم إلى الليل - : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبيد الله بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله هو ابن عمر عن نافع والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، قال القاسم : عن عائشة ، وقال نافع : عن ابن عمر ، [ ص: 367 ] قالت عائشة ، وابن عمر : { كان بلال يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ; فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر } .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى البخاري : ثنا عبد الله بن مسلمة هو القعنبي - عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، قال : وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت } - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ [ ثنا عبد الوارث ] عن عبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري حدثني أبي أنه سمع سمرة بن جندب يقول : [ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ] : { لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور ، ولا هذا البياض حتى يستطير } . [ ص: 368 ] وكذلك حديث عدي بن حاتم ، وسهل بن سعد في الخيطين الأسود ، والأبيض فقال عليه السلام { إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار } . قال أبو محمد : فنص عليه السلام على أن ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يطلع الفجر ، وأباح الأكل إلى أذانه ، فقد صح أن الأكل مباح بعد طلوع الفجر ما لم يتبين لمريد الصوم طلوعه . وقد ادعى قوم أن قوله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { حتى يطلع الفجر و حتى يقال له : أصبحت أصبحت } أن ذلك على المقاربة ، مثل قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } إنما معناه فإذا قاربن بلوغ أجلهن ، قال أبو محمد : وقائل هذا مستسهل للكذب على القرآن وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أول ذلك أنه دعوى بلا برهان ، وإحالة لكلام الله تعالى عن مواضعه ، ولكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقول عليه بما لم يقل ; ولو كان ما قالوا لكان بلال ، وابن أم مكتوم معا لا يؤذنان إلا قبل الفجر ، وهذا باطل لا يقوله أحد ، لا هم ولا غيرهم .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } فإقحامهم فيه : أنه تعالى أراد فإذا قاربن بلوغ أجلهن - : باطل وكذب ، ودعوى بلا برهان ، ولو كان ما قالوه لكان يجوز له الرجعة إلا عند مقاربة انتهاء العدة ; ولا يقول هذا أحد ، لا هم ولا غيرهم ، وهو تحريف للكلم عن مواضعه ; بل الآية على ظاهرها ، وبلوغ أجلهن هو بلوغهن أجل العدة ، ليس هو انقضاءها ، وهذا هو الحق ; لأنهن إذا كن في أجل العدة كله فللزوج الرجعة ، وله الطلاق ; فبطل ما قالوه بيقين لا إشكال فيه . وقال بعضهم : { قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبلال : اكلأ لنا الفجر } موجب لصحة قولهم . قال أبو محمد : وهذا باطل لوجهين - : أحدهما : أنه عليه السلام لم يأمره بذلك إلا للصلاة ، لا للصوم . [ ص: 369 ]

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه حتى لو أمره بذلك للصوم لكان حجة لنا لا لهم ; لأن الأكل ، والجماع : مباحان إلى أن ينذرهم بلال بطلوع الفجر ، وإنذاره إياهم بطلوع الفجر لا يكون إلا بعد طلوع الفجر بلا شك ; فالأكل ، والشرب ، والجماع : مباح كل ذلك ، ولو طلع الفجر ، وإنما يحرم كل ذلك بإنذار بلال بعد طلوع الفجر ; هذا ما لا حيلة لهم فيه ، وقولهم هنا خلاف للقرآن ولجميع السنن - : حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن محمد الباجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا حبيب بن خلف البخاري ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ثنا روح بن عبادة ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال تسحرت ثم انطلقت إلى المسجد ، فدخلت على حذيفة ، فأمر بلقحة فحلبت ، ثم أمر بقدر فسخنت ، ثم قال : كل . قلت : إني أريد الصوم ، قال : وأنا أريد الصوم ، فأكلنا ثم شربنا ثم أتينا المسجد وقد أقيمت الصلاة ، فقال حذيفة : هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : بعد الصبح ؟ قال : بعد الصبح ; إلا أن الشمس لم تطلع } . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود { عن زر بن حبيش قلت لحذيفة : أي وقت تسحرتم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : هو النهار ، إلا أن الشمس لم تطلع } . ومن طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه } قال عمار : وكانوا يؤذنون إذا بزغ الفجر . [ ص: 370 ] قال حماد عن هشام بن عروة : كان أبي يفتي بهذا ؟ وحدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن قتادة { عن أنس : أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تسحر هو وزيد بن ثابت ، وهو عليه السلام يريد الصوم ، ثم صلى الركعتين ، ثم خرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة } . قال أبو محمد : هذا كله على أنه لم يكن يتبين لهم الفجر بعد ; فبهذا تتفق السنن مع القرآن ؟ وروينا من طريق معمر عن أبان عن أنس عن أبي بكر الصديق أنه قال : إذا نظر الرجلان إلى الفجر فشك أحدهما فليأكلا حتى يتبين لهما .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن سالم بن عبيد قال : كان أبو بكر الصديق يقول لي : قم بيني وبين الفجر حتى تسحر ؟ ومن طريق ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن سالم بن عبيد الأشجعي قال : قم فاسترني من الفجر ، ثم أكل . سالم بن عبيد هذا أشجعي كوفي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذه أصح طريق يمكن أن تكون ؟ وقد روينا من طريق وكيع وعبد الرزاق ، قال وكيع : عن يونس بن أبي إسحاق [ ص: 371 ] عن أبي السفر ، وقال عبد الرزاق : عن معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة ، قالا جميعا : كان أبو بكر الصديق يقول : أجيفوا الباب حتى نتسحر الإيجاف : الغلق ومن طريق الحسن : أن عمر بن الخطاب كان يقول : إذا شك الرجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة : ثنا حميد عن أبي رافع أو غيره عن أبي هريرة : أنه سمع النداء والإناء على يده فقال : أحرزتها ورب الكعبة ؟ ومن طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : أحل الله الشراب ما شككت ; يعني في الفجر .

                                                                                                                                                                                          وعن عكرمة قال : قال ابن عباس : اسقني يا غلام ، قال له : أصبحت ، فقلت : كلا ، فقال ابن عباس : شك لعمر الله ، اسقني ؟ فشرب .

                                                                                                                                                                                          وعن وكيع عن عمارة بن زاذان عن مكحول الأزدي قال : رأيت ابن عمر أخذ دلوا من زمزم وقال لرجلين : أطلع الفجر ؟ قال أحدهما : قد طلع ، وقال الآخر : لا ; فشرب ابن عمر . وعن سعد بن أبي وقاص : أنه تسحر في رمضان بالكوفة ثم خرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة .

                                                                                                                                                                                          وعن سفيان بن عيينة عن شعيب بن غرقدة عن حبان بن الحارث : أنه تسحر مع علي بن أبي طالب وهما يريدان الصيام ، فلما فرغ قال للمؤذن : أقم الصلاة ومن طريق ابن أبي شيبة ثنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور بن المعتمر عن شبيب بن غرقدة عن أبي عقيل قال : تسحرت مع علي بن أبي طالب ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة . ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو معاوية عن الشيباني هو أبو إسحاق - عن [ ص: 372 ] جبلة بن سحيم عن عامر بن مطر قال : أتيت عبد الله بن مسعود في داره ، فأخرج لنا فضل سحور ، فتسحرنا معه ، فأقيمت الصلاة ; فخرجنا فصلينا معه . ومن طريق حذيفة نحو هذا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا عفان بن مسلم ثنا شعبة { عن خبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت عمتي - وكانت قد حجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن ابن أم مكتوم ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال ، وإن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، قالت : وكان يصعد هذا وينزل هذا قالت : فكنا نتعلق به فنقول : كما أنت حتى نتسحر } . فحصل لنا من هذا الخبر أنهما كانا مؤذنين : أحدهما قبل الفجر بيسير ، أيهما كانا - : حينا هذا وحينا هذا - والآخر ولا بد بعد الفجر . وعن محمد بن علي بن الحسين : كل حتى يتبين لك الفجر . وعن الحسن : كل ما امتريت . وعن أبي مجلز : الساطع : ذلك الصبح الكاذب ، ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق . وعن إبراهيم النخعي : المعترض الأحمر يحل الصلاة ويحرم الطعام . وعن ابن جريج : قلت لعطاء : أتكره أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لعلي قد أصبحت ؟ قال : لا بأس بذلك ، هو شك ؟ ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم قال : لم يكونوا [ ص: 373 ] يعدون الفجر فجركم ، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق . وعن أبي وائل : أنه تسحر وخرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة وعن معمر : أنه كان يؤخر السحور جدا ، حتى يقول الجاهل : لا صوم له ؟ قال علي : وقد ذكرنا في باب " من تسحر فإذا به نهار وهو يظن أنه ليل " من لم ير في ذلك قضاء . فهؤلاء : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمه خبيب ، وزيد بن ثابت ، وسعد بن أبي وقاص ، فهم أحد عشر من الصحابة ، لا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . إلا رواية ضعيفة من طريق مكحول عن أبي سعيد الخدري ولم يدركه ; ومن طريق يحيى الجزار عن ابن مسعود ولم يدركه . ومن التابعين : محمد بن علي ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، ومسلم ، وأصحاب ابن مسعود ، وعطاء ، والحسن ، والحكم بن عتيبة ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وجابر بن زيد . ومن الفقهاء : معمر ، والأعمش . فإن ذكروا رواية سعيد بن قطن عن أبيه عن معاوية فيمن أفطر وهو يرى أنه ليل فطلعت الشمس : أن عليه القضاء ، وبالرواية عن عمر بمثل ذلك - : فإنما هذا في الإفطار عند الليل ، لا في الأكل شاكا في الفجر ، وبين الأمرين فرق ، ولا يحل الأكل إلا بعد يقين غروب الشمس ، لأن الله تعالى قال : { إلى الليل } فمن أكل شاكا في مجيء الليل فقد عصى الله تعالى ، وصيامه باطل ، فإن جامع فعليه الكفارة ، لأنه في فرض الصيام ، ما لم يوقن الليل ، بخلاف قوله : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } لأن هذا في فرض الإفطار حتى يوقن بالنهار - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية