الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الفصل الثاني

                                                                                                                                                                        في الجدار

                                                                                                                                                                        الجدار بين المالكين قسمان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 212 ] الأول : المختص . فهل للجار وضع الجذوع عليه بغير إذن مالكه ؟ قولان . القديم : نعم . ويجبر المالك إن امتنع ، والجديد : لا ، ولا يجبر .

                                                                                                                                                                        قلت : الأظهر : هو الجديد . وممن نص على تصحيحه ، صاحب " المهذب " ، والجرجاني ، والشاشي ، وغيرهم ، وقطع به جماعة . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فعلى القديم : إنما يجبر بشروط .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع جذوع عليه .

                                                                                                                                                                        والثاني : أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار ، ولا يبني عليه أزجا ، ولا يضع عليه ما يضر الجدار .

                                                                                                                                                                        والثالث : أن لا يملك شيئا من جدران البقعة التي يريد تسقيفها ، أو لا يملك إلا جدارا ، فإن ملك جدارين ، فليسقف عليهما ، وليس له إجبار صاحب الجدار ، ولم يعتبر الإمام هذا الشرط هكذا . بل قال : يشترط كون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت ، ويحتاج رابعا . فأما إذا كان الكل للغير ، فلا يضع قولا واحدا . قال : ولم يعتبر بعض الأصحاب هذا الشرط ، واعتبر في " التتمة " مثل ما ذكره الإمام ، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبا أو جانبين . والمذهب : ما قدمناه . وإن قلنا بالجديد ، فلا بد من رضى المالك . فإن رضي بلا عوض ، فهو عارية ، يرجع فيها قبل وضع الجذوع والبناء عليها قطعا ، وبعده ، على الأصح كسائر العواري . وإذا رجع ، لا يتمكن من قلعه مجانا . وفي فائدة رجوعه وجهان . أصحهما : أنه يتخير بين أن يبقى بأجره ، وبين أن يقلع ، ويضمن أرش النقص ، كما لو أعار أرضا للبناء . لكن في إعارة الأرض خصلة ثالثة ، وهي تملك البناء بقيمته ، وليس لمالك الجدار ذلك ؛ لأن الأرض أصل ، فجاز أن يستتبع البناء ، والجدار تابع فيستتبع . والثاني : ليس له إلا الأجرة ، ولا يملك القلع أصلا ؛ لأن ضرر القلع يصل إلى ما هو خالص ملك المستعير ، [ ص: 213 ] لأن الجذوع إذا رفعت أطرافها ، لم تستمسك على الجدار الباقي . والوجه الثاني : لا يملك الرجوع أصلا ، ولا يستفيد به القلع ، ولا طلب الأجرة للمستقبل ، وبه قطع العراقيون ؛ لأن مثل هذه الإعارة ، يراد بها التأبيد ، فأشبه الإعارة لدفن ميت ، فإنه لا ينبش ولا أجرة . فعلى هذا ، لو رفع الجذوع صاحبها ، أو سقطت بنفسها ، لم يملك إعادتها بغير إذن جديد على الأصح . وكذا لو سقط الجدار فبناه مالكه بتلك الآلة ؛ لأن الإذن تناول مرة . فإن بناه بغير تلك الآلة ، فلا خلاف أنه لا يعيد إلا بإذن جديد ؛ لأنه جدار آخر .

                                                                                                                                                                        قلت : الخلاف في جواز الإعادة بلا إذن . فلو منعه المالك ، لم يعد بلا خلاف ، إذ لا ضرر ، كذا صرح به صاحب " التتمة " . وأشار القاضي أبو الطيب أو صرح بجريان الوجهين في جواز منعه ، فقال في وجه : ليس له منعه لأنه صار له حق لازم ، هذا كله إذا وضع أولا بإذن . فلو ملكا دارين ، ورأيا خشبا على الجدار ، ولا يعلم كيف وضع ، فإذا سقط الحائط ، فليس له منعه ، من إعادة الجذوع بلا خلاف ، كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب " المهذب " و " الشامل " وآخرون ، لأنا حكمنا بأنه وضع بحق ، وشككنا في المجوز للرجوع . ولو أراد صاحب الحائط نقضه ، فإن كان مستهدما ، جاز ، وحكم إعادة الجذوع ما سبق . وإن لم يكن مستهدما ، لم يمكن من نقضه قطعا . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        أما إذا رضي بعوض ، فقد يكون على وجه البيع أو الإجارة ، وسنتكلم فيهما إن شاء الله تعالى . ولو صالحه عنه على المال ، لم يجز على قول الإجبار ؛ لأن من ثبت له حق ، لا يجوز أخذ عوض منه عليه ، وإن قلنا لا ، جاز ، بخلاف الصلح عن الجناح ؛ لأنه هواء مجرد .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية