الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 444 ] 76 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده }

508 - حدثنا يونس ، أخبرنا أنس بن عياض ، عن الحارث بن أبي ذباب ، عن عمه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله عليه السلام قال : { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } .

509 - حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا قتيبة ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : { يهلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } .

[ ص: 445 ]

510 - حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال : سمعت أبا علقمة يحدث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده } .

511 - حدثنا يونس ، حدثنا علي بن معبد ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا ذهب كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا ذهب قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } .

512 - حدثنا ابن خزيمة ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

[ ص: 446 ] فتأملنا هذا الحديث لنقف على المعنى المراد به ما هو ، فوجدنا المزني قد حكى لنا عن الشافعي في تأويله قال : كانت قريش تنتاب الشام انتيابا كثيرا ، وكان كثر معاشهم منه ، وتأتي العراق ، فلما دخلت في الإسلام ذكرت ذلك للنبي عليه السلام خوفا من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق ، وفارقت الكفرة ، ودخلت في الإسلام مع خلاف ملك الشام والعراق لأهل الإسلام ، فقال : { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده } ، فلم يكن بأرض العراق كسرى يثبت له أمر بعده ، وقال : { إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده } ، فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده . فأجابهم النبي عليه السلام على ما قالوا ، فكان كما كان إلى اليوم ، وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس وقيصر ومن قام بعده بالشام ، وقال في قيصر : ثبت ملكه ببلاد الروم ، وينحى ملكه عن الشام ، وكل هذا متفق يصدق بعضه بعضا .

قال أبو جعفر : وسألت أحمد بن أبي عمران عن تأويل هذا الحديث ، فأجابني بخلاف هذا القول ، وذكر أن معنى قوله عليه السلام : { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده } قال : فهلك كسرى كما أعلمنا أنه سيهلك ، فلم يكن بعده كسرى ، ولا يكون بعده كسرى إلى يوم القيامة ، وكان معنى قوله : { إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده } إعلاما منه إياهم أنه سيهلك ولم يهلك إلى الآن ، ولكنه هالك قبل يوم القيامة ، وخولف بينه وبين كسرى في تعجيل هلاك كسرى ، وتأخير هلاك قيصر لاختلاف ما كان منهما عند ورود كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل واحد منهما .

قال لنا ابن أبي عمران : وروي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 447 ]

513 - ما قد حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله : أن ابن عباس أخبره : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، وبعث بكتابه - يعني مع دحية بن خليفة الكلبي ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى - ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، فلما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه : التمسوا لي هاهنا من قومه من أحد أسأله عنه } .

قال ابن عباس : فأخبرني أبو سفيان أنهم أدخلوا عليه ، وأنه لما قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل أبا سفيان عما سأله عنه ، وأجابه أبو سفيان بما أجابه في ذلك قال : إن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، والله لو أني أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه
.

514 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، ثم ذكر هذا الحديث بإسناده . كما حدثناه ابن أبي عمران ، عن إبراهيم بن حمزة ، عن إبراهيم بن سعد سواء .

فكان هذا هو الذي كان من قيصر عند ورود كتاب رسول الله [ ص: 448 ] صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام .

وكان الذي كان من كسرى عند ورود كتاب رسول الله عليه السلام بمثل ذلك :

515 - ما قد حدثنا محمد بن علي بن داود البغدادي ، حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا صالح بن كيسان ، وابن أخي ابن شهاب ، كلاهما عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه خرقه } .

قال ابن شهاب : فحسبت أن ابن المسيب قال : فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن يمزقوا كل ممزق
} .

516 - وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا الأويسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، ثم ذكر مثله سواء .

قال ابن أبي عمران : فخولف بين هلاكيهما في تعجيل أحدهما ، وفي [ ص: 449 ] تأخير الآخر ، وكان هذا التأويل عندنا أشبه من الأول ؛ لأن في التأويل الأول ذكر هلاك قيصر ، ولم يهلك ، إنما كان منه تحوله بملكه من الشام إلى الموضع الذي هو مقيم به الآن .

ومما يحقق أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } ، فقد أنفق كنز كسرى في ذلك ، ولم ينفق كنز قيصر في مثله إلى الآن ، ولكنه سينفق في المستأنف في مثل ذلك ؛ لأن قول رسول الله عليه السلام فإنما هو عن الله تعالى ، ولا يخلف الميعاد .

وقد حقق ذلك أيضا ما قد روي عن رسول الله عليه السلام في هلاك قيصر .

517 - كما قد حدثنا علي بن معبد ، حدثنا معاوية بن عمرو الأزدي ، حدثنا زائدة بن قدامة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، عن نافع بن عتبة بن أبي وقاص ، عن النبي عليه السلام قال : { تقاتلون جزيرة العرب فيفتحها الله تعالى ، ثم تقاتلون فارسا فيفتحها الله ، ثم تقاتلون الروم فيفتحها الله ، ثم تقاتلون الدجال فيفتحه الله } .

قال جابر : ولا يخرج الدجال حتى يخرج الروم .

[ ص: 450 ]

518 - وما قد حدثنا أبو أمية ، حدثنا خلف بن الوليد اللؤلؤي ، حدثنا أبو جعفر الرازي قال الطحاوي : واسمه عيسى بن ماهان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي عليه السلام يقول : { ستغزون جزيرة العرب وتفتح عليكم ، وتغزون فارسا وتفتح عليكم ، وتغزون الروم وتفتح عليكم ، ثم الدجال } .

قال : ولم يذكر نافع بن عتبة .

فأخبر رسول الله عليه السلام أن فتح الروم المقرون بفتح كسرى لم يكن ، وأنه كائن ، وأن كونه إذا كان ككون فتح كسرى الذي قد كان .

وقد روي عنه عليه السلام في آية ذلك :

519 - ما قد حدثنا أحمد بن يحيى بن يزيد الصوري أبو عبد الله ، حدثنا الهيثم بن جميل ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير بن نفير ، عن مالك بن يخامر ، عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عمران بيت المقدس خراب ليثرب ، وخراب يثرب خروج الملحمة ، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية ، وفتح القسطنطينية خروج الدجال ، ثم ضرب على فخذي - أو فخذ الذي بجنبه أو منكبه - ثم قال : أما إنه لحق كما أنك هاهنا } .

[ ص: 451 ]

520 - وما قد حدثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي ، حدثنا علي بن الجعد الجوهري ، حدثنا ابن ثوبان ، ثم ذكر بإسناده مثله ، غير أنه قال : حضور الملحمة مكان خروج الملحمة .

فأخبرنا عليه السلام بالمعنى الذي يكون عنده هلاك قيصر حتى يكون هلاكه هلاك كسرى الذي قد كان ، فلا يكون بعده قيصر إلى يوم القيامة ، كما لا يكون بعد كسرى كسرى إلى يوم القيامة ، وتكون البلدان كلها خالية من كل واحد منهما ، وتكون كنوزهما قد صرفت إلى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ينفق فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية