الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . وقال النقاش : نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، فإنه كان يكذب في العلانية ، ويصدق في السر ، ويقول : نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس . وقال غيره : روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا ، فقال له : والله إن محمدا لصادق ، وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ، فنزلت . " قد " حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان ، كان التوقع من المتكلم ، كقولك : قد ينزل المطر في شهر كذا ، وإذا كان ماضيا ، أو فعل حال بمعنى المضي ، فالتوقع كان عند السامع ، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به ، وعبر هنا بالمضارع ، إذ المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ، ولم يلحظ فيه الزمان ، كقولهم : هو يعطي ويمنع . وقال الزمخشري والتبريزي : قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله : ولكنه قد يهلك المال نائله انتهى . وما ذكره من أن ( قد ) تأتي للتكثير في الفعل ، والزيادة قول غير مشهور للنحاة ، وإن كان قد قال بعضهم مستدلا بقول الشاعر :


قد أترك القرن مصفرا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد

وبقوله :


أخي ثقة لا يتلف الخمر ماله     ولكنه قد يهلك المال نائله

والذي نقوله : إن التكثير لم يفهم من ( قد ) ، وإنما يفهم من سياق الكلام; لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ، ولا بالكرم مرة واحدة ، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك ، وعلى تقدير أن ( قد ) تكون للتكثير في الفعل ، وزيادته لا يتصور ذلك في قوله : ( قد نعلم ) لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير ، [ ص: 111 ] وقوله : بمعنى ( ربما ) التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته ، والمشهور أن ( رب ) للتقليل ، لا للتكثير ، ( وما ) الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل ، و ( ما ) المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها ، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ، ولعلما يخرج بكر ، لم تزل ( كأن ) عن التشبيه ، ولا ( لعل ) عن الترجي . قال بعض أصحابنا : قد كر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضي يعني إذا دخلت على المضارع ، قال : هذا ظاهر قول سيبويه ، فإن خلت من معنى التقليل ، خلت غالبا من الصرف إلى معنى المضي ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد ، نحو قوله : ( قد نعلم إنه ليحزنك ) ، وقوله : ( لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ) وقول الشاعر :


وقد تدرك الإنسان رحمة ربه     ولو كان تحت الأرض سبعين واديا

وقد تخلو من التقليل ، وهي صارفة لمعنى المضي نحو قوله : ( قد نرى تقلب وجهك ) انتهى . وقال مكي : ( قد ) هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه ، و ( نعلم ) بمعنى علمنا . وقال ابن أبي الفضل في " ري الظمآن " : كلمة ( قد ) تأتي للتوقع ، وتأتي للتقريب من الحال ، وتأتي للتقليل انتهى . نحو قولهم : إن الكذوب قد يصدق ، وإن الجبان قد يشجع ، والضمير في ( أنه ) ضمير الشأن ، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبر ( أن ) ، ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع; لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفردا ، وذلك لا يجوز عند البصريين . وتقدم الكلام على قراءة من قرأ ( يحزنك ) رباعيا وثلاثيا في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فأغنى عن إعادته هنا ، والذي يقولون معناه مما ينافي ما أنت عليه . قال الحسن : كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون . وقيل : كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه . وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال . وقيل : كان بعض كفار قريش يقول : له رئي من الجن يخبره بما يخبر به . وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف ( يكذبونك ) . وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد ، فقيل : هما بمعنى واحد ، نحو كثر وأكثر . وقيل : بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول : كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب ، وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به ، دون أن تنسبه إليه ، وتقول العرب أيضا : أكذبت الرجل إذا وجدته كذابا ، كما تقول : أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا ، فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف ، لا يجدونك كاذبا ، أو لا ينسبون الكذب إليك ، وعلى معنى التشديد يكون إما خبرا محضا عن عدم تكذيبهم إياه ، ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز ، والمراد به بعضهم; لأنه معلوم قطعا أن بعضهم كان يكذبه ، ويكذب ما جاء به ، وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار ، فكأنه قيل : ( لا يكذبونك ) تكذيبا يضرك; لأنك لست بكاذب ، فتكذيبهم كلا تكذيب . وقال في المنتخب : لا يراد بقوله : ( لا يكذبونك ) خصوصية تكذيبه هو ، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ، فالمعنى ( لا يكذبونك ) على التعيين ، بل يكذبون جميع الأنبياء والرسل . وقال قتادة والسدي : لا يكذبونك بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت . وقال ناجية بن كعب : لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ، ولكن يكذبون ما جئت به . وقال ابن السائب ومقاتل : ( لا يكذبونك ) في السر ، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة . وقال : لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم ، كذبت ، ذكره الزجاج ، ورجح قراءة علي بالتخفيف بعضهم ، ولا ترجيح بين المتواترين . قال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك ، أمر راجع إلى الله تعالى; لأنك رسوله المصدق بالمعجزات ، فهم لا يكذبونك في الحقيقة ، وإنما يكذبون الله بجحود آياته ، فانته عن حزنك لنفسك ، وأنهم كذبوك ، وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم ، وهو استعظامك لجحود آيات الله ، والاستهانة بكتابه ، ونحوه قول [ ص: 112 ] السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس ، إنهم لم يهينوك ، وإنما أهانوني ، وفي هذه الطريقة قوله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) . وعن ابن عباس ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين ، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون ، فكان أبو جهل يقول : ما نكذبك ، وإنك عندنا لمصدق ، وإنما نكذب ما جئتنا به انتهى . وفي الكلام حذف ، تقديره : فلا تحزن ؛ فإنهم لا يكذبونك ، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيها على أن علة الجحود ، هي الظلم ، وهي مجاوزة الحد في الاعتداء; أي ولكنهم بآيات الله يجحدون .

وآياته قال السدي : محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن السائب : محمد والقرآن . وقال مقاتل : القرآن . وقال ابن عطية : آيات الله; علاماته ، وشواهد نبيه ، والجحود إنكار الشيء بعد معرفته ، وهو ضد الإقرار . فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقا ، فيكون في الجحود تجوز ، إذ كلهم ليس كفره بعد معرفة ، ولكنهم لما أنكروا نبوته ، وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة ، عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار ، وهو الجحد تغليظا عليهم وتقبيحا لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة ، يلزم كل مفطور أن يقر بها ويعلمها . وإن كانت نزلت في المعاندين ، ترتب الجحود حقيقة . وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن ، وهو واقع أيضا ، كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق ، وقصة أمية بن أبي الصلت ، وقوله : ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف . ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد; لأن المعرفة تقتضي الإيمان ، والجحد يقتضي الكفر ، فامتنع اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن ، فقالوا : في قوله : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) أنها في أحكام التوراة التي بدلوها ، كآية الرجم ونحوها . قال ابن عطية : وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد انتهى . والتأويلات في نفي التكذيب ، إنما هو عن اعتقاداتهم . أما بالنسبة إلى أقوالهم ، فأقوالهم مكذبة ، إما له ، وإما لما جاء به .

التالي السابق


الخدمات العلمية