الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثاني: أن هذا الرجل قد اعترف هو ومن يوافقه أن الرؤية التي دل عليها الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة، بل الإدراك المنفي عن الله في قوله: لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] يدل على أن الله تعالى في الجهة، وذلك يقتضي دلالة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على شيئين: على رؤية الله تعالى، وعلى أنه في الجهة. وذكر اعتراف فضلاء المعتزلة بأن النبيين كانوا يعتقدون ذلك.

[ ص: 421 ] أما الأول فإنه لما ذكر الحجج السمعية التي للمعتزلة على نفي الرؤية قال: وهذه الشبه أربع.

الأولى: وهي الأقوى، التمسك بقوله تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال: واعلم أن هذه الآية تارة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يرى بالأبصار في الدنيا، ولا في الآخرة. وتارة على استحالة كوننا رائين له.

أما الوجه الأول: فإنما يتم بإثبات أمور أربعة: أحدها: أن إدراك البصر هو الرؤية.

قال: ويدل عليه أمران: أحدهما: أنه لا فرق في اللغة بين أن يقال: رأيت فلانا ببصري. وبين أن يقال: أدركته ببصري. كما لا فرق بين أن يقال: أدركته بأذني وبين أن يقال: سمعته بأذني.

وثانيهما: أن أهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية، وذلك يدل على أن العرب يستعملون إدراك البصر بمعنى الرؤية.

[ ص: 422 ] وروي عن عائشة لما بلغها أن كعبا قال: إن محمدا رأى ربه. أنكرت ذلك وقالت: " ثلاث من حدثك بهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [الأنعام: 103] قال: وروي عن ابن عباس مثل ذلك".

ثم قال في الجواب عن هذا: " لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن نفس الرؤية.

بيانه: هو أن الإدراك غير موضوع بالحقيقة للرؤية أصلا، لكنه مستعمل في رؤية الشيء المحدود بطريق المجاز، ومتى كان كذلك لم يلزم من الآية هاهنا نفي الرؤية. وإنما قلنا: إن [ ص: 423 ] الإدراك غير موضوع للرؤية حقيقة، لأن لفظ الإدراك حقيقة في غير الرؤية، فوجب أن يكون حقيقة في الرؤية، وإنما قلنا: إن الإدراك غير حقيقة في الرؤية لأنها حقيقة في اللحوق والبلوغ، سواء كان في المكان كما في قوله تعالى: قال أصحاب موسى إنا لمدركون [الشعراء 61] أو في الزمان كما يقال: أدرك قتادة الحسن أو في صفة وحالة كما يقال: أدرك الكلام. وأدركت الثمرة إذا نضجت، وأيضا فإنه يقال: أدركت ببصري حرارة الليل، وإن كانت الحرارة لا ترى، فعلمنا أن الإدراك حقيقة في غير الرؤية، فوجب أن لا يكون حقيقة في الرؤية، لئلا يؤدي إلى الاشتراك الذي هو خلاف الأصل.

وإنما قلنا: إن الإدراك لا يستعمل مجازا إلا في رؤية الشيء المتناهي لوجهين: أحدهما: أنا لما أبصرنا الشيء المتناهي فكان البصر على بعده من ذلك المرئي يتناوله، ولم يتناوله غيره، فجرى ذلك مجرى من قطع المسافة إلى شيء حتى بلغه ووصل إليه، فلما توهم في هذا النوع من الإبصار معنى اللحوق سمي إدراكا. فأما إدراكنا لشيء الذي لا يكون في جهة أصلا، فإنه لا يتحقق فيه معنى البلوغ، فلا جرم [ ص: 424 ] لا يسمى إدراكا.

الثاني: أن الاسم إنما يوضع لما يكون معلوما للواضع، والعرب ما كانوا يتصورون إلا رؤية الشيء المحدود. أما عند الخصم فلأن الرؤية لا على هذا الوجه مستحيلة، وأما عندنا فإنه وإن أمكن ألا يكون كذلك لكنه ما كان معلوما للعرب ولا متصورا لهم، وإذا ثبت ذلك ثبت أنهم لم يستعملوا الإدراك إلا لرؤية الشيء الذي في جهة، فثبت بما ذكرناه أن الإدراك لو أفاد الرؤية لأفاد رؤية الشيء المتناهي، وهذا هو المراد من قول قدماء الأصحاب: الإدراك هو الإحاطة بالمرئي.

التالي السابق


الخدمات العلمية