الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم ، وقالوا : " ما كنا نعمل من سوء " [ 16 \ 28 ] ، فقوله ما كنا نعمل من سوء ، معمول قول محذوف بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء ، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي . وقد بين الله كذبهم بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وبين في مواضع أخر : أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا . وبين كذبهم في ذلك أيضا ; كقوله : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 6 \ 23 - 24 ] ، وقوله : قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله [ 40 \ 74 ] ، وقوله : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون [ 58 \ 18 ] ، وقوله : ويقولون حجرا محجورا [ 25 \ 22 ] ، أي : حراما محرما أن تمسونا بسوء ; لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله هنا : " بلى " [ 16 \ 28 ] ، تكذيب لهم في قولهم : ما كنا نعمل من سوء .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      لفظة : " بلى " لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين ، لا ثالث لهما :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام ، فهي نقيضة " لا " ; لأن " لا " لنفي الإثبات ، و " بلى " ، لنفي النفي ; كقوله هنا : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، فهذا النفي نفته لفظة " بلى " ، أي : كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي ، وكقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] ، وكقوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة [ ص: 369 ] إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، فإنه نفى هذا النفي بقوله - جل وعلا - : بلى من أسلم وجهه لله الآية [ 2 \ 112 ] ، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن تكون جوابا لاستفهام مقترن بنفي خاصة ; كقوله : ألست بربكم قالوا بلى [ 7 \ 172 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى [ 40 \ 50 ] ، وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب . أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب " ، نعم " لا بـ " ، بلى " ، وجواب الاستفهام المقترن بنفي و " نعم " مسموع غير قياسي ; كقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك لنا تداني نعم     وترى الهلال كما أراه
                                                                                                                                                                                                                                      ويعلوها النهار كما علاني



                                                                                                                                                                                                                                      فالمحل لـ " بلى " لا لـ " نعم " في هذا البيت .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ، كقوله عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، ونحو ذلك . مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثا في قوله : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم : " والله ربنا ما كنا مشركين " ; فيختم الله على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ، فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة ، وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية