الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) . ( كبر ) أي عظم وشق إعراضهم عن الإيمان والتصديق بما جئت به ، وهو قد كبر عليه إعراضهم ، لكن جاء الشرط معتبرا فيه التبيين والظهور ، وهو مستقبل ، وعطف عليه الشرط الذي لم يقع ، وهو قوله : ( فإن استطعت ) وليس [ ص: 114 ] مقصودا وحده بالجواب ، فمجموع الشرطين بتأويل الأول لم يقع ، بل المجموع مستقبل ، وإن كان ظاهر أحدهما بانفراده واقعا ، ونظيره ( إن كان قميصه قد من قبل ) ، ( وإن كان قميصه قد من دبر ) . ومعلوم أنه قد وقع أحدهما ، لكن المعنى أن يتبين ويظهر كونه قد من كذا ، وكذا يتأول ما يجيء من دخول ( إن ) الشرطية على صيغة ( كان ) على مذهب جمهور النحاة ، خلافا لأبي العباس المبرد ، فإنه زعم أن ( إن ) إذا دخلت على كان ، بقيت على مضيها بلا تأويل . والنفق السرب في داخل الأرض الذي يتوارى فيه . وقرأ نبيح الغنوي ( أن تبتغي نافقا في الأرض ) ، والنافقاء ممدود ، وهو أحد مخارج جحر اليربوع ، وذلك أن اليربوع يخرج من باطن الأرض إلى وجهها ، ويرق ما واجه الأرض ، ويجعل للجحر بابين : أحدهما; النافقاء ، والآخر; القاصعاء ، فإذا رابه أمر من أحدهما ، دفع ذلك الوجه الذي أرقه من أحدهما ، وخرج منه . وقيل : لجحره ثلاثة أبواب . قال السدي : السلم : المصعد . وقال قتادة : الدرج . وقال أبو عبيدة : السبب ، والمرقاة . تقول العرب : اتخذني سلما لحاجتك; أي سببا; ومنه قول كعب بن زهير :


ولا لكما منجى من الأرض فابغيا به نفقا أو في السماوات سلما

وقال الزجاج : السلم من السلامة ، وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك ، والسلم الذي يصعد عليه ، ويرتقى ، وهو مذكر . وحكى الفراء فيه التأنيث ، قال بعضهم : تأنيثه على معنى المرقاة ، لا بالوضع كما أنث الصوت بمعنى الصيحة والاستغاثة في قوله : سائل بني أسد ما هذه الصوت . ومعنى الآية قال الزمخشري : يعني أنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض ، أو من فوق السماء ، لأتى بها رجاء إيمانهم . وقيل : كانوا يقترحون الآيات ، فكان يود أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم ، فقيل له : إن استطعت كذا فافعل دلالة على أنه بلغ من حرصه ، أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا لعلهم يؤمنون انتهى . والظاهر من قوله : ( فتأتيهم بآية ) أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض ، أو السلم في السماء ، وأن المعنى : أن تبتغي نفقا في الأرض ، فتدخل فيه أو سلما في السماء ، فتصعد عليه إليها ( فتأتيهم بآية ) غير الدخول في السرب ، والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها ، أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم ، وتلك الآية من إحدى الجهتين . وقال ابن عطية : وقوله تعالى : ( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) إلزام الحجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتقسيم الأحوال عليهم حتى يتبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك ، وتلتزم الحزن عليه ، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض ، أو على ارتقاء سلم في السماء ، فدونك وشأنك به; أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد من التزام الصبر ، واحتمال المشقة ، ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله للناظرين المتأملين ، إذ هو لا إله إلا هو ، لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم بحق ملكه ( فلا تكونن من الجاهلين ) أي في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه انتهى . وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون الآية التي يأتي بها ، هي نفس الفعل . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض ، أو السلم في السماء ، هو الإتيان بالآية ، كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض ، أو الترقي في السماء ، لعل ذلك يكون آية لك يؤمنون بها . وقال ابن عطية : ( فتأتيهم بآية ) بعلامة ، ويريد : إما في فعلك ذلك; أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض ، وارتقائك في السماء ، وإما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين انتهى . وما جوزوا من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ ، إذ لو كان ذلك كما جوزاه ، لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية ، وأيضا فأي آية في دخول سرب في الأرض . وأما [ ص: 115 ] الرقي في السماء ، فيكون آية . وقيل : قوله : ( أن تبتغي نفقا في الأرض ) إشارة إلى قولهم ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) وقوله : ( أو سلما في السماء ) إشارة إلى قولهم : ( أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك ) . وكان فيها ضمير الشأن ، والجملة المصدرة بـ ( كبر عليك إعراضهم ) في موضع خبر ( كان ) ، وفي ذلك دليل على أن خبر ( كان ) وأخواتها يكون ماضيا ، ولا يحتاج فيه إلى تقدير ( قد ) ; لكثرة ما ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب ، خلافا لمن زعم أنه لا بد فيه من ( قد ) ظاهرة ، أو مقدرة ، وخلافا لمن حصر ذلك بـ ( كان ) دون أخواتها ، وجوزوا أن يكون اسمها ( إعراضهم ) ، فلا يكون مرفوعا بـ ( كبر ) كما في القول الأول ، وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض ، وهو في موضع الخبر ، وهي مسألة خلاف ، وجواب الشرط محذوف; لدلالة المعنى عليه ، وتقديره : فافعل كما تقول : إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره; أي فافعل; ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي ، أو المضارع المنفي بـ ( لم ) ; لأنه ماض ، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر .

التالي السابق


الخدمات العلمية