الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 452 ] 77 - باب بيان مشكل ما روي عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أحل له النساء

521 - حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل اللخمي ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : { ما مات النبي عليه السلام حتى أحل له النساء } .

522 - حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا إسماعيل بن بكار ، حدثنا وهيب بن خالد ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت : ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له من النساء ما شاء .

523 - وأجاز لي هارون بن محمد العسقلاني أبو يزيد ما ذكر لي أنه [ ص: 453 ] سمعه من العلاء ، وقال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن ينكح من النساء ما شاء .

قال : قلت : من أخبرك هذا ؟ قال : حسبت أني سمعته من عبيد بن عمير قال : وقال أبو الزبير : سمعت رجلا يخبر به عطاء .

524 - حدثنا جعفر بن سليمان بن محمد النوفلي الهاشمي أبو القاسم ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي ، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، عن أم سلمة زوج النبي عليه السلام أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء ، إلا ذات محرم ، وذلك قول الله تعالى : ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء .

ففيما رويناه عن عائشة وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أحل له النساء .

[ ص: 454 ] فتأملنا من النساء اللاتي كن محرمات عليه حتى أحلهن الله له على ما في هذين الحديثين ، وما روي عن المتقدمين في ذلك .

فوجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا قال : حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود ، وهو ابن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد بن عبد الله قال : سألت أبي بن كعب عن هذه الآيات لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ، قال : قلت له : أكان له أن يتزوج غيرهن ؟ قال : نعم ، وما بأس بذلك يقول الله تعالى : يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، حتى بلغ لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ، قال : لا يحل لك ما دون ذلك من النساء الأمهات والأخوات والبنات قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم قال : النساء الأربع ، قال : فكان هذا محالا ؛ لأن فيه أن النساء اللاتي كن حرمن عليه هن الأمهات والأخوات والبنات .

وفي حديث عائشة وأم سلمة اللذين روينا أنه عليه السلام لم يمت حتى أحل له النساء ، فعقلنا بذلك أنهن غير هؤلاء .

وحدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا ورقاء ، عن [ ص: 455 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : لا تحل لك النساء من بعد قال : لا نصرانية ، ولا يهودية ، ولا كافرة ، ولا يبدل بالمسلمات غيرهن من النصارى واليهود والمشركين ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك .

وقد حدثنا الفريابي ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا تحل لك النساء من بعد قال : نساء أهل الكتاب .

وهذا أيضا عندنا محال ؛ لأن ذلك لو كان مما قد أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعاد به من يتزوجه من اليهوديات والنصرانيات للمسلمين أمهات لقول الله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم .

ووجدنا ابن خزيمة قد حدثنا قال : حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن في قوله : لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج الآية ، قال : قصره الله على نسائه التسع التي مات عنهن . قال علي : فأخبرت بذلك علي بن الحسين فقال : بلى ، قد كان له أن يتزوج غيرهن .

ووجدنا جعفر بن سليمان الهاشمي النوفلي ، قد حدثنا قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن ابن أبي عون ، وهو عبد الواحد ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام في قوله : لا تحل لك [ ص: 456 ] النساء من بعد . قال : حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه ، فلا يتزوج بعدهن ، وحبسن عليه .

حدثنا سليمان بن شعيب ، حدثنا الخصيب بن ناصح ، حدثنا سليمان بن أبي سليمان ، عن مطر الوراق ، عن الحسن ، وابن سيرين قالا : { إنما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بين الدنيا والآخرة ، فاخترن الله والدار الآخرة ، فشكر الله لهن ذلك ، فحبسه عليهن ، فقال : لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج " } فكان هذا محتملا غير أنه يدخله ما سنذكره إن شاء الله في بقية هذا الباب .

ووجدنا ابن مرزوق قد حدثنا ، قال : حدثنا حبان بن هلال أبو حبيب المقرئ ، حدثنا أبو معاوية ، عن مغيرة ، عن أبي رزين في قوله تعالى : وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك قال : لا تحل لك النساء بعد هذه الصفة ، يعني النبي عليه السلام .

وكان هذا عندنا محالا ؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن في نسائه من يخرج عن هذه الصفة ، وقد كان فيهن من يخرج عنها ، وهي زينب بنت جحش بن رئاب ، وجويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار ، وميمونة ابنة الحارث ، وصفية ابنة حيي بن أخطب ، وكل هؤلاء فليس ممن يدخل في تلك [ ص: 457 ] الصفة ؛ لأن زينب وجويرية وميمونة عربيات غير قرشيات ، وليس لهن منه عليه السلام أرحام من قبل أمهاته ، ولأن صفية ليست من قريش ، ولا من العرب ، وإنما هي من أهل الكتاب ، ولما استحالت هذه الأقوال التي ذكرنا استحالتها لم يبق بعدها مما قيل في تأويل هذه الآية إلا ما قد رويناه فيه عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعن الحسن ، وابن سيرين في أنها على أن لا يتزوج سوى نسائه التسع .

فقال قائل : وكيف يكون ذلك كذلك ، وإنما كان الله قصره عليهن شكرا منه لهن على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، فكيف يجوز أن ينزع ذلك منهن .

فكان جوابنا له في ذلك أنه قد يحتمل أن يكون الله كان قد جعل ذلك لهن شكرا على ما كان منهن مما ذكر من اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة على الدنيا ، ثم أباح لنبيه بعد ذلك تزويج غيرهن ، فلم يشأ ذلك ، وحبس نفسه عليهن شاكرا لهن ما كان منهن من اختيارهن الله تعالى وإياه والدار الآخرة على الدنيا ، ليشكر الله ذلك له ، فيكون عليه مشكورا منه ، ويكون نساؤه اللاتي كن قصر عليهن ، ومنع من سواهن رضوان الله عليهن باقيات فيما كن عليه من حبس الله تعالى إياه عليهن ، بأن عاد ذلك من النبي عليه السلام اختيارا بعد أن كان قبل ذلك عليه واجبا ، فهذا أحسن ما وجدناه في تأويل هذين الحديثين . والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية