الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

[ في اليمين ]

وأما الأيمان ، فإنهم اتفقوا على أنها تبطل بها الدعوى عن المدعي عليه إذا لم تكن للمدعي بينة .

[ ص: 773 ] واختلفوا هل يثبت بها حق المدعي ، فقال مالك : يثبت بها حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعي عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه ، وقال : غيره لا تثبت للمدعي باليمين دعوى سواء كانت في إسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه ، أو إثبات حق أنكره فيه خصمه .

وسبب اختلافهم ترددهم في مفهوم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " ، هل ذلك عام في كل مدعى عليه ومدع ، أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين ; لأن المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه والمدعى عليه بخلافه ؟

فمن قال : هذا الحكم عام في كل مدع ومدعى عليه ولم يرد بهذا العموم خصوصا ، قال : لا يثبت باليمين حق ، ولا يسقط به حق ثبت ، ومن قال : إنما خص المدعى عليه بهذا الحكم من جهة ما هو أقوى شبهة ، قال : إذا اتفق أن يكون موضع تكون فيه شبهة المدعي أقوى يكون القول قوله .

واحتج هؤلاء بالمواضع التي اتفق الجمهور فيها على أن القول فيها قول المدعي مع يمينه ، مثل دعوى التلف في الوديعة وغير ذلك إن وجد شيء بهذه الصفة ، ولأولئك أن يقولوا : الأصل ما ذكرنا إلا ما خصصه الاتفاق .

وكلهم مجمعون على أن اليمين التي تسقط الدعوى أو تثبتها هي اليمين بالله ، الذي لا إله إلا هو ، وأقاويل فقهاء الأمصار في صفتها متقاربة ، وهي عند مالك : بالله الذي لا إله إلا هو ، لا يزيد عليها ، ويزيد الشافعي الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية .

وأما هل تغلظ بالمكان ؟ فإنهم اختلفوا في ذلك ، فذهب مالك إلى أنها تغلظ بالمكان وذلك في قدر مخصوص ، وكذلك الشافعي .

واختلفوا في القدر ، فقال مالك : إن من ادعى عليه بثلاثة دراهم فصاعدا وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع ، فإن كان مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - فلا خلاف أنه يحلف على المنبر ، وإن كان في غيره من المساجد ففي ذلك روايتان : إحداهما حيث اتفق من المسجد ، والأخرى عند المنبر . وروى عنه ابن القاسم أنه يحلف فيما له بال في الجامع ولم يحدد ، وقال الشافعي : يحلف في المدينة عند المنبر ، وفي مكة بين الركن والمقام ، وكذلك عنده في كل بلد يحلف عند المنبر ، والنصاب عنده في ذلك عشرون دينارا ، وقال داود : يحلف على المنبر في القليل والكثير ، وقال أبو حنيفة : لا تغلظ اليمين بالمكان .

وسبب الخلاف هل التغليظ الوارد في الحلف على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يفهم منه وجوب الحلف على المنبر أم لا ؟ فمن قال : إنه يفهم منه ذلك قال : لأنه لو لم يفهم منه ذلك لم يكن للتغليظ في ذلك معنى ، ومن قال : للتغليظ معنى غير الحكم بوجوب اليمين على المنبر قال : لا يجب الحلف على المنبر .

والحديث الوارد في التغليظ هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار " ، واحتج هؤلاء بالعمل فقالوا : هو عمل الخلفاء ، قال الشافعي : لم يزل عليه العمل بالمدينة وبمكة . قالوا : ولو كان التغليظ لا يفهم منه إيجاب اليمين في الموضع المغلظ لم يكن له فائدة إلا تجنب اليمين في ذلك الموضع . قالوا : وكما أن التغليظ الوارد في اليمين مجرد ، مثل قوله - [ ص: 774 ] عليه الصلاة والسلام - : " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار " يفهم منه وجوب القضاء باليمين ، وكذلك التغليظ الوارد في المكان .

وقال الفريق الآخر : لا يفهم من التغليظ باليمين وجوب الحكم باليمين ، وإذ لم يفهم من تغليظ اليمين وجوب الحكم باليمين لم يفهم من تغليظ اليمين بالمكان وجوب اليمين بالمكان وليس فيه إجماع من الصحابة ، والاختلاف فيه مفهوم من قضية زيد بن ثابت .

وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان ، وكذلك بالزمان ; لأنه قال : في اللعان أن يكون بعد صلاة العصر على ما جاء في التغليظ فيمن حلف بعد العصر .

وأما القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه; فقال مالك والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وأبو ثور والفقهاء السبعة المدنيون وجماعة : يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي وجمهور أهل العراق : لا يقضى باليمين مع الشاهد في شيء ، وبه قال الليث من أصحاب مالك .

وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض السماع .

أما القائلون به فإنهم تعلقوا في ذلك بآثار كثيرة ، منها حديث ابن عباس ، وحديث أبي هريرة ، وحديث زيد بن ثابت ، وحديث جابر ، إلا أن الذي خرج مسلم منها حديث ابن عباس ، ولفظه : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد " خرجه مسلم ولم يخرجه البخاري .

وأما مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد " ; لأن العمل عنده بالمراسيل واجب .

وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) قالوا : وهذا يقتضي الحصر فالزيادة عليه نسخ ، ولا ينسخ القرآن بالسنة الغير متواترة ، وعند المخالف أنه ليس بنسخ بل زيادة لا تغير حكم المزيد .

وأما من السنة فما خرجه البخاري ، ومسلم عن الأشعث بن قيس قال : " كان بيني وبين رجل خصومة في شيء ، فاختصمنا إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : " شاهداك أو يمينه ، فقلت : إذا يحلف ولا يبالي ، فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان " قالوا : فهذا منه - عليه الصلاة والسلام - حصر للحكم ونقض لحجة كل واحد من الخصمين ، ولا يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - ألا يستوفي أقسام الحجة للمدعي .

والذين قالوا باليمين مع الشاهد هم على أصلهم في أن اليمين هي حجة أقوى المتداعيين شبهة ، وقد قويت هاهنا حجة المدعي بالشاهد كما قويت في القسامة .

وهؤلاء اختلفوا في القضاء باليمين مع المرأتين ، فقال مالك : يجوز ; لأن المرأتين قد أقيمتا مقام الواحد ، وقال الشافعي : لا يجوز له ; لأنه إنما أقيمت مقام الواحد مع الشاهد الواحد لا مفردة ولا مع غيره .

وهل يقتضي باليمين في الحدود التي هي حق للناس مثل القذف والجراح ؟ فيه قولان في المذهب .

التالي السابق


الخدمات العلمية