الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب فضل مجالس الذكر

                                                                                                                2689 حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون حدثنا بهز حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك قال وماذا يسألوني قالوا يسألونك جنتك قال وهل رأوا جنتي قالوا لا أي رب قال فكيف لو رأوا جنتي قالوا ويستجيرونك قال ومم يستجيرونني قالوا من نارك يا رب قال وهل رأوا ناري قالوا لا قال فكيف لو رأوا ناري قالوا ويستغفرونك قال فيقول قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا قال فيقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم قال فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [ ص: 184 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 184 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر ) أما السيارة فمعناه : سياحون في الأرض ، وأما ( فضلا ) فضبطوه على أوجه أحدها : وهو أرجحها وأشهرها في بلادنا ( فضلا ) بضم الفاء والضاد . والثانية : بضم الفاء وإسكان الضاد ، ورجحها بعضهم ، وادعى أنها أكثر وأصوب ، والثالثة : بفتح الفاء وإسكان الضاد . قال القاضي : هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاري ومسلم ، والرابعة ( فضل ) بضم الفاء والضاد ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والخامسة ( فضلاء ) بالمد جمع فاضل . قال العلماء : معناه على جميع الروايات : أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق ، فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم ، إنما مقصودهم حلق الذكر ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( يبتغون ) فضبطوه على وجهين أحدهما : بالعين المهملة من التتبع وهو البحث عن الشيء والتفتيش . والثاني : ( يبتغون ) بالغين المعجمة من الابتغاء ، وهو الطلب وكلاهما صحيح .

                                                                                                                [ ص: 185 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضا ) هكذا هو في كثير من نسخ بلادنا ( حف ) بالفاء ، وفي بعضها ( حض ) بالضاد المعجمة أي : حث على الحضور والاستماع ، وحكى القاضي عن بعض رواتهم ( وحط ) بالطاء المهملة واختاره القاضي ، قال : ومعناه أشار بعضهم إلى بعض بالنزول ، ويؤيد هذه الرواية قوله بعده في البخاري ( هلموا إلى حاجتكم ) ويؤيد الرواية الأولى وهي ( حف ) قوله في البخاري : يحفونهم بأجنحتهم ، ويحدقون بهم ويستديرون حولهم ، ويحوف بعضهم بعضا .

                                                                                                                قوله : ( ويستجيرونك من نارك ) أي : يطلبون الأمان منها .

                                                                                                                قوله : ( عبد خطاء ) أي : كثير الخطايا . وفي هذا الحديث : فضيلة الذكر ، وفضيلة مجالسه ، والجلوس مع أهله ، وإن لم يشاركهم ، وفضل مجالس الصالحين وبركتهم . والله أعلم .

                                                                                                                قال القاضي عياض - رحمه الله - : وذكر الله تعالى ضربان : ذكر بالقلب ، وذكر باللسان ، وذكر القلب نوعان . أحدهما : وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه ، ومنه الحديث : خير الذكر الخفي والمراد به هذا . والثاني : ذكره بالقلب عند الأمر والنهي ، فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهي عنه ، ويقف عما أشكل عليه . وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأذكار ، ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث ، قال : وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان أيهما أفضل ؟ قال القاضي : والخلاف عندي إنما يتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحا وتهليلا وشبههما ، وعليه يدل كلامهم لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه ، وإلا فذلك يقاربه ذكر اللسان ، فكيف يفاضله ، وإنما الخلاف ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه ، والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب ، فإن كان لاهيا فلا .

                                                                                                                واحتج من رجح ذكر القلب بأن عمل السر أفضل ، ومن رجح اللسان قال : لأن العمل فيه أكثر ، فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى زيادة أجر ، قال القاضي : واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب ؟ فقيل : تكتب ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها ، وقيل : لا يكتبونه ; لأنه لا يطلع عليه غير الله ، قلت : الصحيح أنهم يكتبونه ، وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية