الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وغيرهم إلى الإسلام

قال ابن إسحاق : ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، وتحدث الناس به ، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه ، وأن ينادي في الناس بأمره ويدعو إليه ، وكان مدة ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستسر به إلى أن أمره الله بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ، ثم قال الله تعالى له : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) ثم قال : ( وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقل إني أنا النذير المبين ) . فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته صلى الله عليه وسلم إلا من عصم الله منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون ، وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه .

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرا له ، لا يرده عنه شيء ، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه ولم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا : [ ص: 189 ] يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ، ثم شري الأمر بينه وبينهم ، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها ، فتذامروا عليه وحض بعضهم بعضا عليه .

ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قال . ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه . وذكر أن أبا طالب لما قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا - للذي قالوا له - فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال له : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته . ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ، ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال له : أقبل يا ابن أخي ، فأقبل عليه ، فقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا .

ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا [ ص: 190 ] له : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولدا ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم ، فنقتله فإنما هو رجل كرجل . قال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ، هذا والله ما لا يكون أبدا . فقال المطعم بن عدي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا . فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك ، فحقب الأمر ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضا .

قال : ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله تعالى منهم رسوله بعمه أبي طالب ، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه ، فاجتمعوا إليه وأقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبي لهب .

روينا عن أبي بكر الشافعي ، حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام ، حدثنا محمد بن المنكدر ، أنه سمع ربيعة بن عباد أو عباد الدؤلي يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة ، يقول : "يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا" . قال : ووراءه رجل يقول : يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم . فسألت من هذا الرجل ؟ فقيل : أبو لهب .

[ ص: 191 ] قال ابن إسحاق : ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقول فيه . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه . قالوا : فنقول : مجنون . قال والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر ، قد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا عقده . قالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا أعرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره ، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .

* قوله : لعذق بفتح العين المهملة وسكون الذال استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهو العذق . ورواية ابن هشام : لغدق بغين معجمة وكسر الدال المهملة من الغدق ، وهو الماء الكثير . قال السهيلي : ورواية ابن إسحاق أفصح لأنها استعارة تامة تشبه آخر الكلام بأوله .

[ ص: 192 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية