الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الخامس والعشرون : في عصمة الله - تعالى - له من الناس ، وكفايته من أذاهم

          قال الله - تعالى - : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] .

          وقال - تعالى - : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ ص: 337 ] [ الطور : 48 ] .

          وقال : أليس الله بكاف عبده [ الزمر : 36 ] .

          قيل : بكاف محمدا - صلى الله عليه وسلم - أعداءه المشركين ، وقيل غير هذا .

          وقال : إنا كفيناك المستهزئين [ الحجر : 95 ] .

          وقال : وإذ يمكر بك الذين كفروا [ الأنفال : 30 ] الآية .

          [ أخبرنا القاضي الشهيد أبو علي الصدفي بقراءتي عليه ، والفقيه الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري ، قالا : حدثنا أبو الحسن الصيرفي ، قال : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا أبو العباس المروزي ، حدثنا أبو عيسى الحافظ ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ] ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني ربي عز وجل .

          وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ، ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله عز وجل فرعدت يد الأعرابي ، وسقط سيفه ، وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه ، فنزلت الآية .

          وقد رويت هذه القصة في الصحيح ، وأن غورث بن الحارث صاحب هذه القصة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفا عنه ، فرجع إلى قومه ، وقال : جئتكم من عند خير الناس .

          وقد حكيت مثل هذه الحكاية ، وأنها جرت له يوم بدر ، وقد انفرد من أصحابه لقضاء حاجته ، فتبعه رجل من المنافقين . . . وذكر مثله .

          وقد روي أنه وقع له مثلها في غزوة غطفان بذي أمر ، مع رجل اسمه دعثور بن الحارث ، وأن الرجل أسلم ، فلما رجع إلى قومه الذين أغروه ، وكان سيدهم ، وأشجعهم ، قالوا له : أين ما كنت تقول ، وقد أمكنك ؟ فقال : إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري ، فوقعت لظهري ، وسقط السيف ، فعرفت أنه ملك ، وأسلمت .

          وفيه نزلت : ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم [ المائدة : 11 ] الآية .

          [ ص: 338 ] وفي رواية الخطابي أن غورث بن الحارث المحاربي أراد أن يفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يشعر به إلا وهو قائم على رأسه منتضيا سيفه ، فقال : اللهم اكفنيه بما شئت فانكب من وجهه من زلخة زلخها بين كتفيه ، وندر سيفه من يده . الزلخة : وجع الظهر .

          وقيل في قصته غير هذا وذكر فيه نزلت : ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم [ المائدة : 11 ] الآية . وقيل : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاف قريشا ، فلما نزلت هذه الآية استلقى ، ثم قال : من شاء فليخذلني .

          وذكر عبد بن حميد ، قال : كانت حمالة الحطب تضع العضاة ، وهي جمر على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنما يطؤها كثيبا أهيل .

          وذكر ابن إسحاق عنها أنها لما بلغها نزول : تبت يدا أبي لهب وتب [ المسد : 1 ] ، وذكرها بما ذكرها الله مع زوجها من الذم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو جالس في المسجد ، ومعه أبو بكر ، وفي يدها قصر من حجارة . فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر ، وأخذ الله - تعالى - ببصرها عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا القدر فاه .

          وعن الحكم بن أبي العاص : تواعدنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقي بتهامة أحد ، فوقعنا مغشيا علينا ، فما أفقنا حتى قضى صلاته ، ورجع إلى أهله .

          ثم تواعدنا ليلة أخرى ، فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا ، والمروة ، فحالت بيننا ، وبينه
          .

          وعن عمر - رضي الله عنه - : تواعدت أنا وأبو جهم بن حذيفة ليلة قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجئنا منزله ، فسمعنا له ، فافتتح ، وقرأ : الحاقة ما الحاقة [ الحاقة : 1 - 2 ] إلى : فهل ترى لهم من باقية [ الحاقة : 8 ] . فضرب أبو جهم على عضد عمر ، وقال : انج ، وفرا هاربين ، فكانت من مقدمات إسلام عمر - رضي الله عنه - ومنه [ ص: 339 ] العبرة المشهورة ، والكفاية التامة عندما أخافته قريش ، وأجمعت على قتله ، وبيتوه ، فخرج عليهم من بيته ، فقام على رءوسهم ، وقد ضرب الله - تعالى - على أبصارهم ، وذر التراب على رءوسهم ، وخلص منهم .

          وحمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله له من الآيات ، ومن العنكبوت الذي نسج عليه ، حتى قال أمية بن خلف حين قالوا : ندخل الغار : ما أربكم فيه ، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمد .

          ووقعت حمامتان على فم الغار ، فقالت قريش : لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام .

          وقصته مع سراقة بن مالك بن جعشم حين الهجرة ، وقد جعلت قريش فيه ، وفي أبي بكر الجعائل ، فأنذر به ، فركب فرسه ، واتبعه حتى إذا قرب منه دعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فساخت قوائم فرسه ، فخر عنها ، واستقسم بالأزلام ، فخرج له ما يكره . ثم ركب ، ودنا حتى سمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو لا يلتفت ، وأبو بكر - رضي الله عنه - يلتفت ، وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أتينا . فقال : لا تحزن إن الله معنا فساخت ثانية إلى ركبتيها ، وخر عنها ، فزجرها فنهضت ، ولقوائمها مثل الدخان فناداهم بالأمان فكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم - أمانا ، كتبه ابن فهيرة ، وقيل أبو بكر ، وأخبرهم بالأخبار ، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يترك أحدا يلحق بهم .

          فانصرف يقول للناس : كفيتم ما ههنا
          .

          وقيل : بل قال لهما : أراكما دعوتما علي ، فادعوا لي .

          فنجا ، ووقع في نفسه ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - .

          وفي خبر آخر : أن راعيا عرف خبرهما ، فخرج يشتد ، يعلم قريشا ، فلما ورد مكة ضرب على قلبه ، فما يدري ما يصنع ، وأنسي ما خرج له حتى رجع إلى موضعه .

          وجاءه - فيما ذكر ابن إسحاق ، وغيره - أبو جهل بصخرة ، وهو ساجد ، وقريش ينظرون ، ليطرحها عليه ، فلزقت بيده ، ويبست يداه إلى عنقه ، وأقبل يرجع القهقرى إلى خلفه ، ثم سأله أن يدعو له ، ففعل ، فانطلقت يداه ، وكان قد تواعد مع قريش بذلك ، وحلف لئن رآه ليدمغنه ، فسألوه عن شأنه ، فذكر أنه عرض لي دونه فحل ، ما رأيت مثله قط ، هم بي أن يأكلني .

          فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ذاك جبريل ، لو دنا لأخذه
          .

          وذكر السمرقندي أن رجلا من بني المغيرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتله ، فطمس الله على بصره ، فلم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسمع قوله ، فرجع إلى [ ص: 340 ] أصحابه فلم يرهم حتى نادوه .

          وذكر أن في هاتين القصتين نزلت : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا [ يس : 8 ] الآيتين

          ومن ذلك ما ذكره ابن إسحاق ، وغيره في قصته ، إذ خرج إلى بني قريظة في أصحابه ، فجلس إلى جدار بعض آطامهم ، فانبعث عمرو بن جحاش أحدهم ليطرح عليه رحى ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فانصرف إلى المدينة ، وأعلمهم بقصتهم .

          وقد قيل : إن قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم [ المائدة : 11 ] في هذه القصة نزلت .

          وحكى السمرقندي أنه خرج إلى بني النضير يستعين في عقل الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ، فقال له حيي بن أخطب : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ، ونعطيك ما سألتنا .

          فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - ، وتوامر حيي معهم على قتله ، فأعلم جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقام كأنه يريد حاجته حتى دخل المدينة
          .

          وذكر أهل التفسير ، والحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أبا جهل وعد قريشا لئن رأى محمدا يصلي ليطأن رقبته .

          فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلموه ، فأقبل ، فلما قرب منه ، ولى هاربا ناكصا على عقبيه ، متقيا بيديه ، فسئل فقال : لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوي فيه ، وأبصرت هولا عظيما ، وخفق أجنحة قد ملأت الأرض .

          فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تلك الملائكة ، لو دنا لاختطفته عضوا عضوا .

          ثم أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - : كلا إن الإنسان ليطغى
          [ العلق : 6 ] إلى آخر السورة ;

          ويروى أن شيبة بن عثمان الحجبي أدركه يوم حنين ، وكان حمزة قد قتل أباه ، وعمه ، فقال : اليوم أدرك ثأري من محمد . [ ص: 341 ] فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ، ورفع سيفه ليصبه عليه ، قال : فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق ، فوليت هاربا ، وأحس بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاني ، فوضع يده على صدري ، وهو أبغض الخلق إلي ، فما رفعها إلا وهو أحب الخلق إلي ، وقال لي : ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي وأقيه بنفسي ، ولو لقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه .

          وعن فضالة بن عمرو : أردت قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، وهو يطوف بالبيت ، فلما دنوت منه قال : أفضالة ؟ قلت : نعم . قال : ما كنت تحدث به نفسك ؟ قلت : لا شيء . فضحك ، واستغفر لي ، ووضع يده على صدري ، فسكن قلبي ، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه .

          ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس حين وفدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان عامر قال له : أنا أشغل عنك وجه محمد ، فاضربه أنت . فلم يره فعل شيئا ، فلما كلمه في ذلك قال له : والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني ، وبينه ، أفأضربك ؟ ! .

          ومن عصمته له - تعالى - أن كثيرا من اليهود ، والكهنة أنذروا به ، وعينوه لقريش ، وأخبروهم بسطوته بهم ، وحضوهم على قتله ، فعصمه الله - تعالى - حتى بلغ فيه أمره .

          ومن ذلك نصره بالرعب أمامه مسيرة شهر ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية