الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب فرض النفير والجهاد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض إلى قوله : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم اقتضى ظاهر الآية وجوب النفير على من لم يستنفر ، وقال في آية بعدها : انفروا خفافا وثقالا

فأوجب النفير مطلقا غير مقيد بشرط الاستنفار ، فاقتضى ظاهره وجوب الجهاد على كل مستطيع له . وحدثناجعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد [ ص: 310 ] قال : حدثنا أبو اليمان وحجاج كلاهما عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة ، وابن أبي بلال عن أبي راشد الحبراني أنه وافى المقداد بن الأسود ، وهو يجهز ، قال : فقلت : يا أبا الأسود قد أعذر الله إليك ، أو قال : قد عذرك الله ، يعني في القعود عن الغزو ؛ فقال : أتت علينا سورة براءة : انفروا خفافا وثقالا .

قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن سيرين : أن أبا أيوب شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا ، فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ، ثم قال بعد ذلك : وما علي من استعمل علي فكان يقول : قال الله : انفروا خفافا وثقالا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا .

وبإسناده قال أبو عبيد : حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس بن مالك : أن أبا طلحة قرأ هذه الآية : انفروا خفافا وثقالا قال : ما أرى الله إلا يستنفرنا شبانا وشيوخا ، جهزوني فجهزناه ، فركب البحر ، ومات في غزاته تلك فما وجدنا له جزيرة ندفنه فيها أو قال : يدفنونه فيها إلا بعد سابعه .

قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن أبي جريج عن مجاهد في هذه الآية قال : قالوا فينا الثقيل وذو الحاجة والصنعة والمنتشر عليه أمره قال الله تعالى : انفروا خفافا وثقالا فتأول هؤلاء هذه الآية على فرض النفير ابتداء ، وإن لم يستنفروا ، والآية الأولى يقتضي ظاهرها وجوب فرض النفير إذا استنفروا ، وقد ذكر في تأويله وجوه :

أحدها : أن ذلك كان في غزوة تبوك لما ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليها فكان النفير مع رسول الله فرضا على من استنفر ، وهو مثل قوله : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه قالوا : وليس كذلك حكم النفير مع غيره . وقيل : إن هذه الآية منسوخة .

حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال : حدثنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم و ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله نسختها الآية التي تليها : وما كان المؤمنون لينفروا كافة . وقال آخرون : ليس في واحدة منهما نسخ ، وحكمهما ثابت في حالين ، فمتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ، واستنفروا ففرض على الناس النفير إليهم حتى يستحيوا الثغور ، وإن استغني عنهم باكتفائهم بمن هناك سواء استنفروا أو لم يستنفروا ، ومتى قام الذين في وجه العدو بفرض الجهاد ، واستغنوا بأنفسهم عمن [ ص: 311 ] وراءهم فليس على من وراءهم فرض الجهاد إلا أن يشاء من شاء منهم الخروج للقتال فيكون فاعلا للفرض ، وإن كان معذورا في القعود بديا ؛ لأن الجهاد فرض على الكفاية ، ومتى قام به بعضهم سقط عن الباقين .

وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة : لا هجرة ، ولكن جهاد ونية وإن استنفرتم فانفروا ، فأمر بالنفير عند الاستنفار ، وهو موافق لظاهر قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض وهو محمول على ما ذكرنا من الاستنفار للحاجة إليهم ؛ لأن أهل الثغور متى اكتفوا بأنفسهم ، ولم تكن لهم حاجة إلى غيرهم فليس يكادون يستنفرون ، ولكن لو استنفرهم الإمام مع كفاية من في وجه العدو من أهل الثغور وجيوش المسلمين لأنه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا . وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء في فرض الجهاد ، فحكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أن الجهاد تطوع وليس بفرض ، وقالوا : كتب عليكم القتال ليس على الوجوب بل على الندب ، كقوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين

وقد روي فيه عن ابن عمر نحو ذلك ، وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه ، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا علي بن معبد عن أبي المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال : كنت عند ابن عمر ، فجاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الفرائض ، وابن عمر جالس حيث يسمع كلامه ، فقال : الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان والجهاد في سبيل الله ، قال : فكأن ابن عمر غضب من ذلك ، ثم قال : الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان قال : وترك الجهاد .

وروي عن عطاء وعمرو بن دينار نحوه ، حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن ( محمد بن ) اليمان قال : حدثنا أبو عبيد : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجب الغزو على الناس ؟ فقال هو وعمرو بن دينار ما علمناه . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك ، وسائر فقهاء الأمصار : { إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة ، إلا أنه فرض على الكفاية إذا [ ص: 312 ] قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه } . ، وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول : ليس بفرض ، ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ، ويجزي فيه بعضهم على بعض ، فإن كان هذا قول سفيان فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية ، وهو موافق لمذهب أصحابنا الذي ذكرناه .

ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين . وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ، إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم ، ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى كان بإزاء العدو مقاومين له ، ولا يخافون غلبة العدو عليهم هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية ؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة أنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم ، وأن يقعدوا عنهم ، وقال آخرون : { على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية } ، وهو مذهب أصحابنا ، ومن ذكرنا من السلف المقداد بن الأسود وأبو طلحة في آخرين من الصحابة ، والتابعين .

وقال حذيفة بن اليمان : { الإسلام ثمانية أسهم } ، وذكر سهما منها الجهاد . وحدثنا جعفر بن محمد : حدثنا جعفر بن ( محمد بن ) اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قال معمر : كان مكحول يستقبل القبلة ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب ، ثم يقول : إن شئتم زدتكم . وحدثنا جعفر قال : حدثنا جعفر : حدثنا أبو عبيد : حدثنا عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث أو غيره عن ابن شهاب قال : كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا ، فمن قعد فهو عدة إن استعين به أعان ، وإن استنفر نفر ، وإن استغنى عنه قعد ، وهذا مثل قول من يراه فرضا على الكفاية . وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضه متعينا على كل أحد كالصلاة والصوم ، وأنه فرض على الكفاية .

والآيات الموجبة لفرض الجهاد كثيرة ، فمنها قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فاقتضى ذلك وجوب قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام ، وقال : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم الآية ، وقال : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية ، وقال : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم وقال : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ ص: 313 ] و وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة

وقال : انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله وقال : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم وقال : فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وقال : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم فأخبر أن النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال ؛ فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين :

أحدهما : أنه قرنه إلى فرض الإيمان ، والآخر : الإخبار بأن النجاة من عذاب الله به وبالإيمان ، والعذاب لا يستحق إلا بترك الواجبات ، وقال : كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومعناه : فرض ، كقوله : كتب عليكم الصيام

فإن قيل هو كقوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وإنما هي ندب ليست بفرض .

قيل له : قد كانت الوصية واجبة بهذه الآية ، وذلك قبل فرض الله المواريث ، ثم نسخت بعد الميراث ، ومع ذلك فإن في حكم اللفظ الإيجاب إلا أن تقوم دلالة للندب ، ولم تقم الدلالة في الجهاد أنه ندب . قال أبو بكر : فأكد الله تعالى فرض الجهاد على سائر المكلفين بهذه الآية ، وبغيرها على حسب الإمكان ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين فأوجب عليه فرض الجهاد من وجهين :

أحدهما : بنفسه ، ومباشرة القتال وحضوره ، والآخر : بالتحريض والحث والبيان ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له مال فلم يذكر فيما فرضه عليه إنفاق المال ، وقال لغيره : انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فألزم من كان من أهل القتال وله مال فرض الجهاد بنفسه وماله ، ثم قال في آية أخرى : وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله فلم يخل من أسقط عنه فرض الجهاد بنفسه وماله للعجز والعدم من إيجاب فرضه بالنصح لله ورسوله ، فليس أحد من المكلفين إلا وعليه فرض الجهاد على مراتبه التي وصفنا .

وقد روي في تأكيد فرضه أخبار كثيرة ، فمنها ما حدثنا عن عمرو بن حفص السدوسي قال : حدثنا عاصم بن علي قال : حدثنا قيس بن الربيع عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة عن بشير بن الخصاصية قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه فقلت له : علام [ ص: 304 ] تبايعني يا رسول الله ؟ فمد رسول الله يده فقال : على أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله وتصلي الصلوات الخمس المكتوبات لوقتهن وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت وتجاهد في سبيل الله ، فقلت : يا رسول الله كلا لا أطيق إلا اثنتين إيتاء الزكاة فما لي إلا حمولة أهلي ، وما يقومون به ، وأما الجهاد فإني رجل جبان فأخاف أن تخشع نفسي فأفر فأبوء بغضب من الله ؛ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، وقال : يا بشير لا جهاد ولا صدقة فيم تدخل الجنة ؟ فقلت : يا رسول الله ابسط يدك فبسط يده فبايعته عليهن .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد : أخبرنا حميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فأوجب الجهاد بكل ما أمكن الجهاد به . وليس بعد الإيمان بالله ورسوله فرض آكد ولا أولى بالإيجاب من الجهاد ، وذلك أنه بالجهاد يمكن إظهار الإسلام وأداء الفرائض ، وفي ترك الجهاد غلبة العدو ودروس الدين ، وذهاب الإسلام ، إلا أن فرضه على الكفاية على ما بينا .

فإن احتج محتج بما روى عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بني الإسلام على خمس } ، فذكر الشهادتين والصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان ، فذكر هذه الخمس ، ولم يذكر فيه الجهاد ، وهذا يدل على أنه ليس بفرض . قال أبو بكر : وهذا حديث في الأصل موقوف على ابن عمر رواه وهب عن عمر بن محمد عن زيد عن أبيه عن ابن عمر أنه قال : وجدت الإسلام بني على خمس ، وقوله : { وجدت } دليل على أنه قال من رأيه ، وجائز أن يجد غيره ما هو أكثر منه ؛ وقول حذيفة : بني الإسلام على ثمانية أسهم أحدها الجهاد يعارض قول ابن عمر .

فإن قيل فقد روى عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا قال : جاء رجل إلى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن لا تغزو ؟ فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمسة ، فهذا حديث مستقيم السند مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قيل له : جائز أن يكون إنما اقتصر على خمسة ؛ لأنه قصد إلى ذكر ما يلزم الإنسان في نفسه دون ما يكون منه فرضا على الكفاية ، ألا ترى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، وتعلم علوم الدين ، وغسل الموتى وتكفينهم ودفنهم كلها فروض ، ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيما بني عليه الإسلام ؟ ولم يخرجه ترك ذكره من أن يكون [ ص: 315 ] فرضا ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد إلى بيان ذكر الفروض اللازمة للإنسان في خاصة نفسه في أوقات مرتبة ، ولا ينوب غيره عنها فيه ، والجهاد فرض على الكفاية على الحد الذي بينا ، فلذلك لم يذكره .

وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على وجوبه ، وهو ما حدثنا عن عبد الله بن شيرويه قال : حدثني إسحاق بن راهويه قال : أخبرنا جرير عن ليث بن أبي سليم عن عطاء عن ابن عمر قال : لقد أتى علينا زمان ، وما نرى أن أحدا منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم ، حتى إن الدينار والدرهم اليوم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ، ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يراجعوا دينهم .

وحدثنا عن خلف بن عمرو العكبري قال : حدثنا المعلى بن مهدي : حدثنا عبد الوارث : حدثنا ليث عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فقد اقتضى هذا اللفظ وجوب الجهاد لإخباره بإدخال الله الذل عليهم بذكر عقوبة على الجهاد ، والعقوبات لا تستحق إلا على ترك الواجبات ، وهذا يدل على أن مذهب ابن عمر في الجهاد فرض على الكفاية ، وأن الرواية التي رويت عنه في نفي فرض الجهاد إنما هي على الوجه الذي ذكرنا من أنه غير متعين على كل حال في كل زمان .

ويدل على أنه فرض على الكفاية قوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقوله : فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وقوله : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى فلو كان الجهاد فرضا على كل أحد في نفسه لما كان القاعدون موعودين بالحسنى بل كانوا يكونون مذمومين مستحقين للعقاب بتركه . وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان : حدثنا أبو عبيد : حدثنا حجاج عن ابن جريج ، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله عز وجل : فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وفي قوله : انفروا خفافا وثقالا قال : نسختها وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون قال : تنفر طائفة وتمكث طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فالماكثون هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو بما نزل من قضاء الله وكتابه وحدوده . وحدثنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا جعفر [ ص: 316 ] بن ( محمد بن ) اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال : { يعني من السرايا كانت ترجع ، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم بعدهم ، ويبعث سرايا أخر } قال : فذلك قوله : ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم فثبت بما قدمنا لزوم فرض الجهاد ، وأنه فرض على الكفاية ، وليس بلازم لكل أحد في خاصة نفسه وماله إذا كفاه ذلك غيره .

قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم الآية روي عن الحسن ومجاهد والضحاك : شبانا وشيوخا . وعن أبي صالح : { أغنياء وفقراء } . وعن الحسن : مشاغيل ، وغير مشاغيل . وعن ابن عباس وقتادة : نشاطا وغير نشاط . وعن ابن عمر : ركبانا ومشاة . وقيل : { ذا صنعة وغير ذي صنعة } . قال أبو بكر : كل هذه الوجوه يحتمله اللفظ ، فالواجب أن يعمها ، إذ لم تقم دلالة التخصيص . وقوله : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا ، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به ، كما أن من له قوة وجلد ، وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه ، وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه ، ومن قوي على القتال ، وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال ، ومن كان عاجزا بنفسه معدما فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله

وقوله تعالى : ذلكم خير لكم مع أنه لا خير في ترك الجهاد قيل فيه وجهان :

أحدهما : خير من تركه إلى المباح في الحال التي لا يتعين عليه فرض الجهاد ، والآخر : أن الخير فيه لا في تركه . وقوله تعالى : إن كنتم تعلمون قيل فيه : إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير ، وقيل : إن كنتم تعلمون صدق الله فيما وعد به من ثوابه وجنته .

التالي السابق


الخدمات العلمية