الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ تخصيص الحديث بمذهب راويه من الصحابة ]

                                                      الضرب الثاني : أن يكون هو الراوي ، كحديث ابن عباس : { من بدل دينه فاقتلوه } فإن لفظة : " من " عامة في المذكر والمؤنث وقد روي [ ص: 530 ] عن ابن عباس أن المرأة إذا ارتدت تحبس ولا تقتل ، فخص الحديث بالرجال ، فإن قلنا : قول الصحابي حجة ، خص على المختار .

                                                      وقال القاضي في مختصر التقريب " : وقد نسب ذلك إلى الشافعي في قوله الذي يقلد الصحابي فيه ، ونقل عنه أنه لا يخصص به ، إلا إذا انتشر في هذا العصر ، ولم ينكره ، وجعل ذلك نازلا منزلة الإجماع .

                                                      وإن قلنا : قوله : غير حجة فهو موضع الخلاف .

                                                      والصحيح : أنه لا يخص به ، خلافا للحنفية والحنابلة . وشبهتهم أن الصحابي العدل لا يترك ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعمل بخلافه إلا لنسخ ثبت عنده ، ولنا أن الحجة في اللفظ وهو عام ، وتخصيص الراوي لا يصلح أن يكون معارضا ، لأنه يجوز أن يكون خصه بدليل لا يوافق عليه لو ظهر ، فلا يترك الدلالة اللفظية المحققة لمحتمل .

                                                      قال ابن دقيق العيد : وقد يخالف في هذا ويقول : إن القرائن تخصص العموم ، والراوي يشاهد من القرائن ما لا يشاهده غيره ، وعدالته وتيقظه مع علمه بأن العموم مما لا يخص إلا بموجب مما يمنعه أن يحكم بالتخصيص إلا بمستند ، وجهالته دلالة ما ظنه مخصصا على التخصيص يمنع منه معرفته باللسان ، وتيقظه . ا هـ . وجزم الأستاذ أبو منصور ، والشيخ في شرح اللمع " في هذا الضرب بأن مذهبه لا يخصص عموم الحديث . وقال سليم : لا يخصه على القول الجديد ، وكلام من جزم محمول على التفريع على هذا القول ، فإن تخريج المسألة على أن قول الصحابي حجة أم لا ، لا فرق فيه بين أن يكون هو [ ص: 531 ] الراوي له أم لا ، لأن تخصيصه يدل على أنه اطلع من النبي عليه السلام على قرائن حالية تقتضي التخصيص ، فهو أقوى من التخصيص بمذهب صحابي آخر لم يرو الخبر ، ولعله لم يبلغه ، ولو بلغه لم يخالفه بإخراج بعضه .

                                                      وإلى هذه الأولوية يرشد كلام ابن الحاجب في المختصر " بقوله : مذهب الصحابي لا يخصص ، ولو كان الراوي ، خلافا للحنفية والحنابلة . واختار الآمدي والرازي وفصل بعضهم ، فقال إن وجد ما يقتضي تخصيصه به ، لم يخص بمذهب الراوي بل به ، إن اقتضى نظر الناظر فيه ذلك وإلا خص بمذهب الراوي وهو مذهب القاضي عبد الجبار .

                                                      ومثل الشيخ في شرح اللمع " هذا القسم بحديث { ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة } . قال : وحمله الحنفية على فرس الغازي لقول زيد بن ثابت ، وهذا فيه نظر . فإن الحديث لا يعرف من طريق زيد . وقال ابن القشيري : إذا روى الصحابي خبرا ، وعمل بخلافه ، فالذي نقله إمام الحرمين أن الاعتبار بروايته لا بفعله . ونقل القاضي أن مجرد مذهب الراوي لا يبطل الحديث ولا يدفعه ، لكن إن صدر ذلك المذهب منه مصدر التأويل والتخصيص فيقبل ، وتخصيصه أولى . وعند الحنفية لا يجوز الاحتجاج بما رواه إذا كان عمله مخالفا .

                                                      وحكى القاضي عن عيسى بن أبان أن الصحابي إذا كان من الأئمة وعمل بخلاف ما روي كان دليلا على نسخ الخبر . قال والاختيار ما ذكره إمام الحرمين ، وهو إنا إن تحققنا نسيانه للخبر الذي رواه ، أو فرضنا مخالفته [ ص: 532 ] لخبر لم يروه وجوزنا أنه لم يبلغه فالعمل بالخبر وإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحرج فيما سبق فيه تحريم وحظر ، ثم رأيناه يتحرج فالاستمساك بالخبر ، وعمله محمول على الورع . وإن ناقض عمله روايته ، ولم نجد محملا في الجميع امتنع التعلق بروايته ، فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن يعمد إلى مخالفة ما رواه إلا عن سبب يوجب المخالفة . والحاصل : أنه إن فعل ما له فعله فلا احتجاج بما رواه ، وإن فعل ما ليس له فعله أخرجه ذلك عن رتبة الفقه . قال ابن القشيري : وعلى هذا فلا يقطع بأن الحديث منسوخ ، كما صار إليه ابن أبان ، ولعله علم شيئا يقتضي ترك العمل بذلك الخبر . ويتجه هاهنا أن يقال : لو كان ثم سبب يوجب رد الخبر لوجب على هذا الراوي أن يثبته ، إذ لا يجوز ترك ذكر ما عليه مدار الأمر ، والمحل محل التباس ، ثم قال الإمام : إذا روى الراوي خبرا ، وكان الظاهر أنه لم يحط بمعناه فمخالفته للخبر لا تقدح في الخبر وإن لم يدر أنه ناس للخبر أو ذاكر لما عمل بخلافه فالتعلق بالخبر ، لأنه من أصول الشريعة ، ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به ، فلا يدفع الأصل بهذا التردد ، بل إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم نحققه ، فهذا يعضد التأويل ويؤيده ، ويحط مرتبة الظاهر ، ويخص الأمر في الدليل الذي عضده التأويل .

                                                      وقال إلكيا وابن فورك : المختار أنا إن علمنا من حال الراوي أنه إنما حمل على ذلك بما علم من قصد النبي صلى الله عليه وسلم ، وجب اتباعه لئلا يفضي إلى مخالفة النبي عليه السلام ، وإن حمله على وجه استدلال أو تخصيصا بخبر آخر فلا يجب اتباعه . قلت : وسكتا عن حالة ثالثة ، وهي إذا لم يعلم الحال . وكأنها موضع الخلاف ، وإليه يشير كلام القاضي عبد الوهاب في الإفادة " [ ص: 533 ] فالأحوال إذن ثلاثة : أحدهما أن يعلم من قصد النبي عليه السلام ومخرج كلامه أن المراد الخصوص فيجب اتباع الراوي فيه . الثاني : أن يعلم أنه خص الخبر بدليل آخر ، أو ضرب من الاستدلال فيجب استعمال الخبر قطعا . الثالث : أن لا يعلم ما لأجله خص الخبر ، وأمكن أن يكون بدليل ، فهذا موضع الخلاف والراجح تقديم الخبر .

                                                      وقال الشيخ أبو حامد : إنما يقبل قول الراوي للخبر إذا كان الخبر محتملا لمعنيين قال : وأجمع المسلمون أنه إذا أريد به أحدهما فإذا فسره بأحد محتمليه أخذنا به كما في حديث : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا } حيث فسره بالتفرق بالأبدان . فأما ما في غير ذلك فلا يقبل ، وهذا مذهبنا ، وبه قال الكرخي

                                                      وذهب أبو حنيفة وأصحابه خلافا للكرخي إلى أنه يخص عموم الخبر ، وترك ظاهره بقول الراوي وبمذهبه ولا يقبل قوله في تفسير الخبر بأحد محتمليه ، فالمكان الذي نقبل قوله فيه لا يقبلونه ، والمكان الذي يقبلونه لا نقبله

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية