الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

                                                                                                                                                                                                                                      كما يفصح عنه كلمة " لما " في قوله تعالى : فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فإن الحق : عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه ، حين أعرضوا عن كل آية آية منه ، عبر بذلك إبانة لكمال قبح ما فعلوا به ; فإن تكذيب الحق مما لا يتصور صدوره [ ص: 110 ] عن أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، لكن لا على أنها شيء مغاير له في الحقيقة واقع عقيبه ، أو حاصل بسببه ، بل على أن الأول هو عين الثاني حقيقة ، وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري ، وقد لتحقيق ذلك المعنى ، كما في قوله تعالى : فقد جاءوا ظلما وزورا بعد قوله تعالى : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ; فإن ما جاءوه ; أي : فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكي ، لكنه لما كان مغايرا له مفهوما وأشنع منه حالا ، رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره ، كذلك مفهوم التكذيب بالحق ، حيث كان أشنع من مفهوم الإعراض المذكور ، أخرج مخرج اللازم البين البطلان ، فرتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه ، ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيدا لشناعته ، وتمهيدا لبيان أن ما كذبوا به آثر ذي أثير ، له عواقب جليلة ستبدو لهم البتة ، والمعنى : أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها ، فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه أصلا ، من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ، ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه ، كقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله .

                                                                                                                                                                                                                                      كما ينبئ عنه قوله تعالى : فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون فإن " ما " عبارة عن الحق المذكور ، عبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه ، وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة ، وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة التي نطقت بها آيات الوعيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ الأنباء إيذان بغاية العظم ، لما أن النبأ لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع ، وحملها على العقوبات الآجلة ، أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته ، يأباه الآيات الآتية .

                                                                                                                                                                                                                                      و" سوف " لتأكيد مضمون الجملة وتقريره ; أي : فسيأتيهم البتة ، وإن تأخر مصداق أنباء الشيء الذي كانوا يكذبون به قبل ، من غير أن يتدبروا في عواقبه ، وإنما قيل : يستهزءون إيذانا بأن تكذيبهم كان مقرونا بالاستهزاء ، كما أشير إليه ، هذا على أن يراد بالآيات : الآية القرآنية ، وهو الأظهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إن أريد بها : الآيات التكوينية ; فالفاء داخلة على علة جواب شرط محذوف ، والإعراض على حقيقته ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن تلك الآيات ، فلا تعجب ، فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض ، حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ، ولا مساغ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلا ، وأما ما قيل من أن المعنى : أنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن ، فمما ينبغي تنزيه التنزيل عن أمثاله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية