الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 7 ] 794 - باب بيان مشكل ما روي في المراد

بقول الله - عز وجل - : فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك

حدثنا أحمد بن أبي عمران ، قال : حدثنا الجراح بن مخلد البصري ، قال : حدثنا عمر بن يونس ، قال : حدثني عكرمة بن عمار ، قال : حدثني أبو زميل ، قال : قال رجل لابن عباس : إنه ليقع في نفسي ما أن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به. فقال ابن عباس : من الشك يعني ؟ قال : فقال : نعم . فقال : وهل يسلم من ذلك أحد ، وقد قال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك . [ ص: 8 ] ولا نعلمه روي عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في المراد بهذه الآية ، غير هذا الحديث الذي رويناه في ذلك عن ابن عباس .

وأما التابعون فروي عنهم في ذلك

ما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن الحسن ، أنهما قالا في هذه الآية : فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك قالا : لم يشك ، ولم نشك .

وحدثنا أحمد بن علي بن مصعب أبو العباس البغدادي ، قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم بن مشكان ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير مثله .

[ ص: 9 ] حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا إسماعيل بن سالم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد ومنصور ، عن الحسن مثله .

وحدثنا أحمد ، قال : حدثنا مسدد وسهل بن بكار ، قالا : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير مثله .

وأما أهل اللغة ، فقد رويت عنهم في ذلك أقوال ، منها : ما قال الكسائي والفراء جميعا : ليس قوله - عز وجل - : فإن كنت في شك خبرا عن أنه في شك ، إنما ذلك كقول الرجل لابنه : إن كنت ابني فافعل كذا ، وليس في شك أنه ابنه .

وكان أحسن من ذلك ما قد قاله غيرهما من أهل اللغة أن المراد في ذلك غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ظاهره القصد به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن المراد به غيره ، وهم الشاكون فيه ، وكان ذلك بمعنى : فإن كنت [ ص: 10 ] في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك ، وممن قال ذلك منهم : أبو عبيدة معمر بن المثنى ، وقالوا : هذا كما قال الله - عز وجل - : حتى إذا كنتم في الفلك يعني : نوحا ، لا يعنيه - صلى الله عليه وسلم - ثم كشف - عز وجل - مراده بذلك ما هو ؟ بقوله: وجرين بهم بريح طيبة ، فأخبر - عز وجل - أن المرادين بذلك هم غيره - صلى الله عليه وسلم - وغير أمته ، وكان الذي قالوه في المرادين بقوله - عز وجل - عندهم : فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك أنهم الذين آمنوا به قبل ذلك من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله منهم .

وحضرني أنا في ذلك تأويل قد يحتمل أن يكون هو المراد بالمذكورين في تلك الآية ، وأن يكونوا هم الذين لقيهم - صلى الله عليه وسلم - في بيت المقدس من الأنبياء الذين كان أنزل عليهم قبله من الكتب ما أنزل عليهم منها مما فيه ذكره وذكر أمته ، ومثل هذا مما قاله ابن عباس في حديث أبي زميل الذي رويناه عنه في هذا الباب : ومن يسلم من هذا ، وقد قال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فتلا الآية التي تلاها فيه ، وجه ذلك عندنا من ابن عباس على مراده به غيره - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الخطاب ظاهره هو أنه المخاطب به لسعة لغة العرب ; ولأنها قد تخاطب من تريد غيره ، والله أعلم بمراده - عز وجل - في ذلك ، ثم بمراد ابن عباس في جوابه الذي قد ذكرناه عنه .

وقد روي عن عمر بن الخطاب في ذلك مما يدخل في هذا المعنى ، ومما ينفي أن يكون المراد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحدا من [ ص: 11 ] أصحابه ، وهو :

5016 - ما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا يوسف بن بهلول الكوفي ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه في حديث المتظاهرتين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه ، وفي ذكر تخيير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه بعد ذلك ، قال : ثم جلست ، فقلت : يا نبي الله ، أنت نبي الله وصفيه وخيرته من خلقه على ما أرى - يعني من خصفة رآه مضطجعا عليها ، ومن وسادة محشوة ليفا تحت رأسه ، هكذا هو مذكور في هذا الحديث - وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير ، فجلس ، فقال : " يا عمر ، لعلك شككت ؟ " قلت : لا ، والذي بعثك بالحق ، إني على يقين من الله - عز وجل - فيك ، إنك لنبيه وصفيه ، ولكني عجبت لما زوي عنك من الدنيا ، وبسط على هؤلاء . فقال : إنهم قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، وإنا أخرت لنا في آخرتنا .

5017 - وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث بن سعد ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، ثم ذكر بإسناده مثله

غير أنه قال : أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت [ ص: 12 ] لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت : يا رسول الله ، استغفر لي .

وإذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد نفى عن نفسه الشك فيما نفاه عنها بحلفه على ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعه عن ذلك ، كان ذلك عن رسول الله أشد انتفاء ، وكان عن أمثال عمر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انتفائه عنهم كانتفائه عن عمر ، وكان في ذلك ما قد تحققنا به على أن المرادين بالشك في ذلك هم غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير عمر ، وغير من سواه من أصحابه - رضوان الله عليهم - وأنهم من سواهم من أهل الشك فيه - صلى الله عليه وسلم - ممن إسلامه - إن كان له إسلام - ليس كإسلام أصحابه - رضوان الله عليهم - أو ممن لا يؤمن به ، ولم يدخل في شريعته ، ولم نجد في تأويل هذه الآية أحسن مما ذكرناه في تأويلها مما قد اجتبيناه في هذا الباب ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية