الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا لولا أنزل عليه ملك شروع في قدحهم في نبوته عليه السلام صريحا ، بعد ما أشير إلى قدحهم فيها ضمنا . وقيل : هو معطوف على جواب " لو " ، وليس بذاك ، لما أن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور ، بل هي من أباطيلهم المحققة ، وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها ، كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ; أي : هلا أنزل عليه عليه السلام ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبي ، حسبما نقل عنهم فيما روي عن الكلبي ومقاتل ، ونظيره قولهم : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين إنزال الملك كما هو ، وجعله معه عليه السلام نذيرا ، أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الوجود أصلا ; لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود ، لما أن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله نذيرا ، وجعله نذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته لا محالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ; أي : لو أنزلنا ملكا على هيئته حسبما اقترحوه ، والحال أنه من هول المنظر ، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ، ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ، ويفاوضونهم على الصور [ ص: 113 ] البشرية ، كضيف إبراهيم ولوط ، وخصم داود عليهم السلام ، وغير ذلك ، وحيث كان شأنهم كذلك ، وهم مؤيدون بالقوى القدسية ، فما ظنك بمن عداهم من العوام ، فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية واستحال جعله نذيرا ، وهو مع كونه خلاف مطلوبهم ، مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال سبحانه : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وفيه كما ترى إيذان بأنهم في ذلك الاقتراح ، كالباحث عن حتفه بظلفه ، وأن عدم الإجابة إليه للبقيا عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نون العظمة ، مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول ; لتهويل الأمر وتربية المهابة . وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة " ثم " في قوله تعالى : ثم لا ينظرون ; أي : لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين ; فضلا عن أن ينذروا به ، كما هو المقصود بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار ، فإن مفاجأة العذاب أشد من نفس العذاب وأشق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته ، وهي آية لا شيء أبين منها ، ثم لم يؤمنوا ، لم يكن بد من إهلاكهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنهم إذا رأوه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف ، فيجب إهلاكهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية