الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإن كانت قرية مجتمعة البناء والمنازل وكان أهلها لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة وكان أهلها أربعين رجلا حرا بالغا غير مغلوب على عقله ، وجبت عليهم الجمعة واحتج بما لا يثبته أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلا وعن عبيد الله بن عبد الله أنه قال : كل قرية فيها أربعون رجلا فعليهم الجمعة ومثله عن عمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            هذه المسألة تشتمل على فصلين : أحدهما : في المكان الذي تنعقد فيه الجمعة ، والثاني : في العدد الذي تنعقد به الجمعة .

                                                                                                                                            فأما المكان : فمذهبنا أنها تنعقد في الأمصار ، والقرى إذا كانت القرية مجتمعة البناء ، وكان لها عدد تنعقد به الجمعة ، وهم أربعون لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة ، وبه قال من الصحابة عمر وابن عمر وابن عباس ، ومن الفقهاء مالك ، وأحمد بن حنبل ، وقال أبو حنيفة : لا تجب الجمعة على أهل القرى ، ولا تصح إقامة الجمعة فيها ، إلا أن يكون مصرا جامعا ، فيلزمهم إقامتها . وحد المصر عنده : أن يكون فيه إمام يقيم الحدود ، وقاض ينفذ الأحكام ، وجامع ومنبر ، وبه قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، ومن نص قوله استدل بما روي عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع قالوا : ولأن فرض الجمعة على أهل السواد والقرى مما تعم به البلوى ، وما عمت به البلوى لا يجوز أن يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا خاصا ، بل يشرعه شرعا عاما ، ولا ينقل آحادا بل ينقل نقلا متواترا ، وذلك معدوم .

                                                                                                                                            [ ص: 408 ] قالوا : ولأنه موضع لا تقام فيه الحدود في الغالب . فوجب ألا تصح إقامة الجمعة فيه ، كالمفاوز والبوادي .

                                                                                                                                            ودليلنا مع ما ذكرناه من الظواهر المتقدمة قوله صلى الله عليه وسلم : جمعوا حيث كنتم ولم يخص بلدا من قرية ، فكان على عمومه ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قرية مزنية أن يصلوا الجمعة والعيدين وروي أن أسعد بن زرارة صلى أول جمعة في الإسلام بالمدينة ، في حرة بني بياضة ، بموضع يقال له الخضمات ولم يكن مصرا ، وكانوا أربعين رجلا وروى ابن عباس أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد المدينة بقرية من قرى البحرين تسمى جواثا ولأنها إقامة صلاة ، فوجب أن لا يكون من شرطها المصر ، كسائر الصلوات ، ولأنها معقل يستوطنه عدد تنعقد بهم الجمعة ، فجاز أن يقيموا الجمعة قياسا على أهل الأمصار .

                                                                                                                                            الجواب عن استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع فهو موقوف على علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، على وهاء في إسناده ثم لا يصح لأبي حنيفة الاستدلال به ، لأنه يقول : لو أن إماما أقام الحدود ، وقاضيا نفذ الأحكام في قرية وجب إقامة الجمعة فيها ، ولو خرج عن المصر الإمام والقاضي ولم يستخلفا ، لم تلزمهم إقامة الجمعة ، فلم يعتمد على ظاهر الخبر في اعتبار المصر ، وبطل أن يكون له فيه دلالة ثم يستعمله ، فنقول : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع العدد الذي تنعقد به الجمعة .

                                                                                                                                            وأما قولهم إن ما يعم به البلوى يجب أن يكون بيانه عاما ، ولا يرد به النقل آحادا ، فيقال لهم يجوز عندنا أن يكون بيانه خاصا ، ويرد النقل به آحادا ، فلم نسلم لكم هذه الدلالة ، على أنهم يقولون ما تعم به البلوى يجب أن يكون بيانه عاما إذا كان من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد له في الكتاب ذكر ولا بيان حكم ، وقد ورد كتاب الله تعالى بإيجاب الجمعة ، فلا يلزمهم على مذهبهم أن يكون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما ، على أنه صلى الله عليه وسلم قد عم البيان ، فقال صلى الله عليه وسلم على منبره : اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في عامي هذا في شهري هذا ، في ساعتي هذه ، فريضة مكتوبة وليس في البيان أعم من هذا .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على البوادي : فالمعنى فيه : أنهم غير مستوطنين .

                                                                                                                                            فإذا ثبت إقامة الجمعة في القرى إذا استوطنها عدد تنعقد بهم الجمعة وكانوا مجتمعي المنازل اعتبرت حال منازلهم : فإن كانت مبنية بالآجر والجص أو باللبن والطين ، أو بالخشب الوثيق ، فعليهم إقامة الجمعة ، وإن كانت منازلهم خياما أو بيوت شعر ، أو من سعف ، أو [ ص: 409 ] قصب ، فلا جمعة عليهم ، لأن هذه المنازل ليست أوطانا ثابتة ، وكذلك إن كانوا أهل منازل متفرقة وبنيان متباعدة غير مجتمعة ، ولا متصلة ، لأن هؤلاء في حكم المقيمين ، لا المستوطنين ، لأن الأوطان ما اجتمعت ، والجمعة لا تنعقد بالمقيم حتى يكون مستوطنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية