الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة ، وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - رحمه الله - إملاء ) : ( اعلم ) بأن الرهن عقد وثيقة بمال مشروع للتوثق في جانب الاستيفاء ، فالاستيفاء هو المختص بالمال ، ولهذا كان موجبه ثبوت يد الاستيفاء حقا للمرتهن عندنا ; لأن موجب حقيقة الاستيفاء ملك عين المستوفى ، وملك اليد ، فموجب العقد - الذي هو وثيقة الاستيفاء - بعض ذلك ، وهو ملك اليد .

وعلى قول الشافعي ( رحمه الله ) : موجبه ما هو موجب سائر الوثائق كالكفالة ، والحوالة ، وهو أن تزداد المطالبة به فيثبت به للمرتهن حق المطالبة بإيفاء الدين من ماليته ، وذلك بالبيع في الدين ، ولكنا نقول : الكفالة ، والحوالة عقد وثيقة ما لزمه ، والذمة محل لالتزام المطالبة فيها ، فيكون الثابت بهما بعض ما ثبت لحقيقة التزام الدين وهو المطالبة ، والرهن عقد وثيقة بمال والمال محل لاستيفاء الدين منه فعرفنا أن الثابت به بعض ما ثبت لحقيقة الاستيفاء ، وكيف يكون البيع في الدين موجب عقد الرهن ولا يملك المرتهن ذلك بعد تمام الرهن إلا بتسليط الراهن إياه على ذلك نصا ؟ وكم من رهن ينفك عن البيع في الدين ، وموجب العقد ما لا يخلو العقد عنه بعد تمامه ، ثم جواز هذا العقد ثابت بالكتاب والسنة أما الكتاب [ ص: 64 ] فقوله تعالى { : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } ، وهو أمر بصيغة الخبر ; لأنه معطوف على قوله تعالى { : فاكتبوه } .

وعلى قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } ، وأدنى ما يثبت بصيغة الأمر الجواز ، والسنة : حديث عائشة رضي الله عنها { : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما لبيته ، ورهنه درعه } . وفي حديث أسماء بنت يزيد أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ، ودرعه مرهون عند يهودي بوسق من شعير } .

وعن ابن عباس ، وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { رهن درعه ليهودي فما وجد ما يفتكه حتى توفي ، وجاء اليهودي في أيام التعزية يطالب بحقه ليغيظ المسلمين به } .

وفي هذا دليل جواز الرهن في كل ما هو مال متقوم ، ما يكون معدا للطاعة ، وما لا يكون معدا له في ذلك سواء ، فإن درعه صلى الله عليه وسلم كان معدا للجهاد به فيكون دليلا على جواز رهن المصحف بخلاف ما يقوله الشيعة : أن ما يكون للطاعة لا يجوز رهنه ; لأنه في صورة حبسه عن الطاعة ، وفيه دليل : أن الرهن جائز في الحضر والسفر جميعا ، فإنه رهنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة في حال إقامته بها بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر : أن الرهن لا يجوز إلا في السفر لظاهر قوله تعالى { : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } ، والتعليق بالشرط يقتضي الفصل بين الوجود ، والعدم ، ولكنا نقول ليس المراد به الشرط حقيقة بل ذكر ما يعتاده الناس في معاملاتهم ، فإنهم في الغالب يميلون إلى الرهن عند تعذر إمكان التوثق بالكتاب والشهود ، والغالب أن يكون ذلك في السفر ، والمعاملة الظاهرة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، فالرهن في الحضر ، والسفر دليل : على جوازه بكل حال

التالي السابق


الخدمات العلمية