الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الانتباه لما قال الحاكم ولم يخرجاه

محمد بن محمود بن إبراهيم عطية

صفحة جزء
[ ص: 16 ] المستدرك دراسة ونتائج

كتاب المستدرك على الصحيحين كتاب أراد الحاكم بتأليفه خدمة السنة النبوية بلا شك، فمن المعلوم مما تواتره أهل العلم أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى الصحيحان، ولكنهما لم يجمعا كل الصحيح، لذا كانت همة بعض العلماء أن يضيفا إليهما مما ليس فيهما ويساويهما في الصحة مما هو على شرط البخاري ومسلم أو على شرط أحدهما أو يكون صحيحا مقاربا لذلك. ومن هؤلاء أبو عبد الله الحاكم رحمه الله.

بيد أن الحاكم - رحمه الله - وقع في أوهام في هذا المستدرك، وتبعه الذهبي أيضا في كثير منها في تلخيصه على المستدرك، ولعل ذلك لأن الحاكم صنف المستدرك في نهاية عمره، وكان يملي من حفظه غالبا، ثم لم يتسن له أن يراجع ما كتبه وأملاه، ووافته منيته قبل أن ينقحه، وقد ذكر بعضهم أنه حدث له في نهاية عمره تغيرا وغفلة فوقع بذلك في الأوهام. ونقل السيوطي في (تدريب الراوي) عن الحافظ ابن حجر قوله: وإنما وقع للحاكم التساهل لأنه سود الكتاب لينقحه فأعجلته المنية. قال: وقد وجدت في قريب نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم . ثم قال: وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة، فمن أكبر أصحابه وأكثر الناس له ملازمة البيهقي ، وهو إذا ساق عنه في غير المملى شيئا لا يذكره إلا بالإجازة، قال: والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة لما بعده [ ص: 17 ] .

وقال ابن حجر في (لسان الميزان): والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء، لكن قيل في الاعتذار عنه: إنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له وقطع بترك الرواية عنهم ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها.

قلت: ابتدأ الحاكم إملاء المستدرك في يوم الإثنين السابع من المحرم سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة كما جاء ذلك في مقدمة الكتاب (1/ 2). وفي المطبوع: 2/ 63 (2367) حدثنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ إملاء في شهر رمضان سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وفيه أيضا: 2/ 132 (2595) قال: حدثنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ إملاء في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة; وآخر ما وجدته في تاريخ الإملاء: 3/ 199 (4900): حدثنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ إملاء في المحرم سنة ثلاث وأربعمائة.

فهذا يدل على أن الحاكم استغرق في إملاء وتصنيف الكتاب أكثر من ثلاثين سنة، ولعله لكثرة انشغالاته العلمية وغيرها كان إملاؤه لهذا الكتاب متباعدا، وحدث بين إملاءاته توقف طويل لم أقف على سببه، والعلم عند الله تعالى. كما يدل ذلك أيضا على أن غالب الكتاب كان إملاء.

وإنما قلت: (غالب الكتاب كان إملاء) لأن الحاكم - رحمه الله - قال: 2/ 229، 230 (2902) أخبرنا أبو جعفر محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأ محمد بن جعفر بن أبي كثير، حدثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار ، عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلست قريبا من [ ص: 18 ] أبي بن كعب فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة براءة، فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني.... وذكر الحديث. ثم قال: هكذا وجدته في كتابي وطلبته في المسانيد فلم أجده بطوله، والحديث بإسناده صحيح. ا هـ.

وهذا يدل على أنه إنما كان من كتاب; والحاكم - رحمه الله - كان يملي من الكتاب لا مشافهة; فالذي يظهر أنه كان كتب من حفظه مسودة الكتاب ثم أملاه منها، فكان إذا أراد الاستيثاق رجع إلى المصادر; فغالب ما نقل عنه من الكتاب كان إملاء، ثم باقي الكتاب كان بالإجازة كما قال ابن حجر رحمه الله.

وقال: 2/ 521 بعد أن روى حديث عائشة في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر من طريق سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب، ومن طريق خصيف عن عبد العزيز بن جريج : قد أتى إمام أهل مصر في الحديث والرواية سعيد بن كثير بن عفير عن يحيى بن أيوب. طلبتها وقت إملائي كتاب الوتر فلم أجدها، فوجدتها بعد. ا هـ.

وهذا يدل أيضا على أنه كان يرجع إلى كتبه.

فالذي يظهر مما سبق أن الحاكم أبا عبد الله - رحمه الله - ابتدأ في إملاء الكتاب قبل موته باثنتين وثلاثين سنة، وانتهى من الكتاب بعد سنة ثلاث وأربعمائة، كما يظهر من آخر تأريخ في أواخر الثلث الأول من الجزء الثالث، فقد انتهى يقينا منه في أواخر عمره، فقد توفي رحمه الله سنة خمس وأربعمائة. كما يظهر أيضا أنه كان يطلب بعض الطرق التي يريد الاستيثاق منها، ولم يكن يرجع إلى المصادر في كل ما يملي; ثم وافته المنية قبل أن ينقح الكتاب، مع ما أصابه من التغير والغفلة، فوقع الوهم; والعلم عند الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية