الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه ، متفق عليه وهذا لفظ البخاري عن عمر ، وفي لفظ البخاري أيضا عن عمر : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث .

                                                          وفي لفظ مسلم عن أبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف ، فقال : أسأل الله معافاته ومعونته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك ، ثم أتاه الثانية على حرفين فقال له مثل ذلك ، ثم أتاه الثالثة بثلاثة [ ص: 20 ] فقال له مثل ذلك ، ثم أتاه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا ورواه أبو داود والترمذي وأحمد وهذا لفظه مختصرا ، وفي لفظ للترمذي أيضا عن أبي قال : لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عند أحجار المرا قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام ، قال : فمرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف قال الترمذي : حسن صحيح . وفي لفظ : فمن قرأ بحرف منها فهو كما قرأ ، وفي لفظ حذيفة : فقلت : يا جبريل ، إني أرسلت إلى أمة أمية الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط ، قال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف . وفي لفظ لأبي هريرة : أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما ، وفي رواية لأبي : " دخلت المسجد أصلي فدخل رجل فافتتح النحل فخالفني في القراءة ، فلما انفتل قلت : من أقرأك ؟ قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم جاء رجل يصلي فقرأ وافتتح النحل فخالفني وخالف صاحبي ، فلما انفتل قلت : من أقرأك ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فدخل قلبي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية ، فأخذت بأيديهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : استقرئ هذين فاستقرأ أحدهما ، قال : أحسنت . فدخل قلبي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية ، ثم استقرأ الآخر فقال : أحسنت . فدخل صدري من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية ، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري فقال : أعيذك بالله يا أبي من الشك ، ثم قال : جبريل - عليه السلام - أتاني فقال : إن ربك - عز وجل - يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : اللهم خفف عن أمتي فقال : إن ربك - عز وجل - يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين ، فقلت : اللهم خفف عن أمتي ، ثم عاد فقال : إن ربك - عز وجل - يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف وأعطاك بكل ردة مسألة " الحديث رواه الحارث بن أبي أسامة [ ص: 21 ] في مسنده بهذا اللفظ ، وفي لفظ لابن مسعود : " فمن قرأ على حرف منها فلا يتحول إلى غيره رغبة عنه " ، وفي لفظ لأبي بكرة : " كل شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب " ، وهو كقولك : هلم ، وتعال ، وأقبل ، وأسرع ، واذهب ، واعجل . وفي لفظ لعمرو بن العاص : " فأي ذلك قرأتم فقد أصبتم ولا تماروا فيه ، فإن المراء فيه كفر " . ( وقد نص ) الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - على أن هذا الحديث تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                          ( قلت ) : وقد تتبعت طرق هذا الحديث في جزء مفرد جمعته في ذلك فرويناه من حديث عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان وأبي بكرة وعمرو بن العاص وزيد بن أرقم وأنس بن مالك وسمرة بن جندب وعمر بن أبي سلمة وأبي جهيم وأبي طلحة الأنصاري ، وأم أيوب الأنصارية - رضي الله عنهم - ، وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال يوما وهو على المنبر : أذكر أن رجلا سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام ، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فقال عثمان - رضي الله عنه - : وأنا أشهد معهم ، وقد تكلم الناس على هذا الحديث بأنواع الكلام ، وصنف الإمام الحافظ أبو شامة - رحمه الله - فيه كتابا حافلا وتكلم بعده قوم وجنح آخرون إلى شيء آخر ، والذي ظهر لي أن الكلام عليه ينحصر في عشرة أوجه :

                                                          ( الأول ) في سبب وروده .

                                                          ( الثاني ) في معنى الأحرف .

                                                          ( الثالث ) في المقصود بها هنا .

                                                          ( الرابع ) ما وجه كونها سبعة ؟

                                                          ( الخامس ) على أي شيء يتوجه اختلاف هذه السبعة ؟

                                                          ( السادس ) على كم معنى تشتمل هذه السبعة ؟

                                                          ( السابع ) هل هذه السبعة متفرقة في القرآن ؟

                                                          ( الثامن ) هل المصاحف العثمانية مشتملة عليها ؟

                                                          ( التاسع ) هل القراءات التي بين أيدي الناس اليوم [ ص: 22 ] هي السبعة أم بعضها ؟

                                                          ( العاشر ) ما حقيقة هذا الاختلاف وفائدته ؟

                                                          فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها ، والتهوين عليها شرفا لها وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها ، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق حيث أتاه جبريل فقال له : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال : أسأل الله معافاته ومعونته وإن أمتي لا تطيق ذلك ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف ، وفي الصحيح أيضا : إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هون على أمتي ، ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف ، وكما ثبت صحيحا : إن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف ، وإن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد ، وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها ، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها ، أو من حرف إلى آخر ، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولا بالتعليم والعلاج ، لا سيما الشيخ والمرأة ، ومن لم يقرأ كتابا كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم . فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع ، وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع ; ولذلك اختلف العلماء في جواز القراءة بلغة أخرى غير العربي على أقوال ، ثالثها إن عجز عن العربي جاز وإلا فلا ، وليس هذا موضع الترجيح فقد ذكر في موضعه .

                                                          ( قال الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة ) في كتاب المشكل : فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرئ كل أمة بلغتهم وما جرت عليه عادتهم فالهذلي يقرأ ( عتى حين ) يريد ( حتى ) هكذا يلفظ بها ويستعملها ، والأسدي يقرأ ( تعلمون وتعلم وتسود وألم إعهد إليكم ) ، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز ، والآخر يقرأ قيل لهم ، وغيض الماء بإشمام الضم مع الكسر ، و بضاعتنا ردت بإشمام الكسر مع [ ص: 23 ] الضم و ما لك لا تأمنا بإشمام الضم مع الإدغام .

                                                          ( قلت ) : وهذا يقرأ ( عليهم وفيهم ) بالضم والآخر يقرأ ( عليهمو ، ومنهمو ) بالصلة ، وهذا يقرأ قد أفلح ، و قل أوحي و خلوا إلى بالنقل والآخر يقرأ ( موسى ، وعيسى ، ودنيا ) بالإمالة وغيره يلطف ، وهذا يقرأ ( خبيرا و بصيرا ) بالترقيق ، والآخر يقرأ ( الصلاة ، والطلاق ) بالتفخيم إلى غير ذلك ( قال ابن قتيبة ) : ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشيا وكهلا لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان وقطع للعادة فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين ، ( وأما ) معنى الأحرف فقال أهل اللغة : حرف كل شيء طرفه ووجهه وحافته وحده وناحيته والقطعة منه ، والحرف أيضا واحد حروف التهجي كأنه قطعة من الكلمة .

                                                          ( قال ) الحافظ أبو عمرو الداني : معنى الأحرف التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ها هنا يتوجه إلى وجهين : أحدهما أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات ; لأن الأحرف جمع حرف في القليل ، كفلس وأفلس ، والحرف قد يراد به الوجه ، بدليل قوله تعالى : يعبد الله على حرف الآية ، فالمراد بالحرف هنا الوجه ، أي : على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية ، فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله ، وإذا تغيرت عليه وامتحنه بالشدة والضر ترك العبادة وكفر ، فهذا عبد الله على وجه واحد ; فلهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفا على معنى أن كل شيء منها وجه .

                                                          ( قال ) والوجه الثاني من معناها أن يكون سمى القراءات أحرفا على طريق السعة كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان كسبب منه وتعلق به ضربا من التعلق ، كتسميتهم الجملة باسم البعض منها ; فلذلك سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة حرفا ، وإن كان كلاما كثيرا من أجل أن منها حرفا قد غير نظمه ، أو كسر ، أو قلب إلى غيره ، أو أميل [ ص: 24 ] أو زيد ، أو نقص منه على ما جاء في المختلف فيه من القراءة فسمى القراءة ، إذ كان ذلك الحرف فيها حرفا على عادة العرب في ذلك واعتمادا على استعمالها .

                                                          ( قلت ) : وكلا الوجهين محتمل إلا أن الأول محتمل احتمالا قويا في قوله - صلى الله عليه وسلم - : سبعة أحرف أي : سبعة أوجه وأنحاء . والثاني محتمل احتمالا قويا في قول عمر - رضي الله عنه - في الحديث : سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي : على قراءات كثيرة وكذا قوله في الرواية الأخرى سمعته يقرأ فيها أحرفا لم يكن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها ، فالأول غير الثاني كما سيأتي بيانه ، ( وأما ) المقصود بهذه السبعة فقد اختلف العلماء في ذلك مع إجماعهم على أنه ليس المقصود أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه ، إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات يسيرة نحو أف ، و جبريل ، و أرجه ، و هيهات ، و هيت ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القراء المشهورين ، وإن كان يظنه بعض العوام ; لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خلقوا ولا وجدوا ، وأول من جمع قراءاتهم أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة كما سيأتي ، وأكثر العلماء على أنها لغات ، ثم اختلفوا في تعيينها فقال أبو عبيد : قريش ، وهذيل ، وثقيف ، وهوازن ، وكنانة ، وتميم ، واليمن . وقال غيره خمس لغات في أكناف هوازن : سعد ، وثقيف ، وكنانة ، وهذيل ، وقريش ، ولغتان على جميع ألسنة العرب ، وقال أبو عبيد أحمد بن محمد بن محمد الهروي : يعني على سبع لغات من لغات العرب أي أنها متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن .

                                                          ( قلت ) : وهذه الأقوال مدخولة ، فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان كما ثبت في الصحيح وكلاهما قرشيان من لغة واحدة وقبيلة واحدة ، ( وقال ) بعضهم : المراد بها معاني الأحكام : كالحلال والحرام ، والمحكم والمتشابه ، والأمثال ، والإنشاء ، والإخبار . ( وقيل ) الناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمجمل والمبين ، والمفسر ( وقيل ) الأمر ، والنهي ، والطلب ، [ ص: 25 ] والدعاء ، والخبر ، والاستخبار ، والزجر ( وقيل ) الوعد ، والوعيد ، والمطلق ، والمقيد ، والتفسير ، والإعراب ، والتأويل .

                                                          ( قلت ) : وهذه الأقوال غير صحيحة ، فإن الصحابة الذين اختلفوا وترافعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في حديث عمر وهشام وأبي وابن مسعود وعمرو بن العاص وغيرهم لم يختلفوا في تفسيره ولا أحكامه ، وإنما اختلفوا في قراءة حروفه ، ( فإن قيل ) فما تقول في الحديث الذي رواه الطبراني من حديث عمر بن أبي سلمة المخزومي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود : " إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد ، وإن القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وضرب أمثال ، وآمر وزاجر ، فأحل حلاله وحرم حرامه ، واعمل بمحكمه وقف عند متشابهه ، واعتبر أمثاله ، فإن كلا من عند الله وما يذكر إلا أولو الألباب ؟ " ( فالجواب ) عنه من ثلاثة أوجه :

                                                          ( أحدها ) أن هذه السبعة غير السبعة الأحرف التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأحاديث وذلك من حيث فسرها في هذا الحديث فقال : حلال وحرام إلى آخره وأمر بإحلال حلاله وتحريم حرامه إلى آخره ، ثم أكد ذلك بالأمر بقول آمنا به كل من عند ربنا ، فدل على أن هذه غير تلك القراءات .

                                                          ( الثاني ) أن السبعة الأحرف في هذا الحديث هي هذه المذكورة في الأحاديث الأخرى التي هي الأوجه والقراءات ، ويكون قوله حلال وحرام إلى آخره تفسيرا للسبعة الأبواب والله أعلم .

                                                          ( الثالث ) أن يكون قوله حلال وحرام إلى آخره لا تعلق له بالسبعة الأحرف ولا بالسبعة الأبواب ، بل إخبار عن القرآن ، أي هو كذا وكذا واتفق كونه بصفات سبع كذلك ، ( وأما ) وجه كونها سبعة أحرف دون أن لا كانت أقل أو أكثر ، فقال الأكثرون : إن أصول قبائل العرب تنتهي إلى سبعة ، أو إن اللغات الفصحى سبع وكلاهما دعوى ، وقيل : ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل المراد السعة والتيسير وأنه لا حرج عليهم في قراءته بما هو من لغات العرب من حيث إن الله تعالى [ ص: 26 ] أذن لهم في ذلك والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر ، قال - تعالى - : كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، و إن تستغفر لهم سبعين مرة ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحسنة : إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وكذا حمل بعضهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، وهذا جيد لولا أن الحديث يأباه ، فإنه ثبت في الحديث من غير وجه أنه لما أتاه جبريل بحرف واحد قال له ميكائيل : استزده . وإنه سأل الله تعالى التهوين على أمته فأتاه على حرفين فأمره ميكائيل بالاستزادة ، وسأل الله التخفيف فأتاه بثلاثة ولم يزل كذلك حتى بلغ سبعة أحرف . وفي حديث أبي بكرة : فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله ، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها ، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها ، وذلك إما في الحركات بلا تغيير في المعنى والصورة : نحو ( البخل ) بأربعة ( ويحسب ) بوجهين ، أو بتغير في المعنى فقط نحو فتلقى آدم من ربه كلمات ، وادكر بعد أمة ، و ( أمه ) ، وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو ( تبلوا وتتلوا ) و ( ننحيك ببدنك لتكون لمن خلفك ) و ننجيك ببدنك ، أو عكس ذلك نحو ( بصطة وبسطة ) و ( الصراط والسراط ) ، أو بتغيرهما نحو ( أشد منكم ، ومنهم ) و ( يأتل ويتأل ) و ( فامضوا إلى ذكر الله ) ، وإما في التقديم والتأخير نحو ( فيقتلون ويقتلون ) ( وجاءت سكرت الحق بالموت ) ، أو في الزيادة والنقصان نحو ( وأوصى ووصى ) و ( الذكر والأنثى ) فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها ، وأما نحو اختلاف الإظهار ، والإدغام ، والروم ، والإشمام ، والتفخيم ، والترقيق ، والمد ، والقصر ، والإمالة ، والفتح ، والتحقيق ، والتسهيل ، والإبدال ، والنقل مما يعبر [ ص: 27 ] عنه بالأصول ، فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى ; لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا ، ولئن فرض فيكون من الأول .

                                                          ثم رأيت الإمام الكبير أبا الفضل الرازي حاول ما ذكرته فقال : إن الكلام لا يخرج اختلافه عن سبعة أوجه :

                                                          ( الأول ) اختلاف الأسماء من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والمبالغة وغيرها .

                                                          ( الثاني ) اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه من نحو الماضي والمضارع والأمر والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به .

                                                          ( الثالث ) وجوه الإعراب .

                                                          ( الرابع ) الزيادة والنقص .

                                                          ( الخامس ) التقديم والتأخير .

                                                          ( السادس ) القلب والإبدال في كلمة بأخرى وفي حرف بآخر .

                                                          ( السابع ) اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ، ونحو ذلك .

                                                          ثم وقفت على كلام ابن قتيبة وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر فقال : وقد تدبرت وجوه الاختلاف في القراءات فوجدتها سبعة :

                                                          ( الأول ) في الإعراب بما لا يزيل صورتها في الخط ولا يغير معناها نحو هؤلاء بناتي هن أطهر لكم و ( أطهر ) ، ( وهل نجازي إلا الكفور ) و نجازي إلا الكفور و ( البخل والبخل ، وميسرة وميسرة ) .

                                                          ( والثاني ) الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها نحو ربنا باعد و ( ربنا باعد ) و إذ تلقونه و ( تلقونه ) و بعد أمة و ( بعد أمه ) .

                                                          ( والثالث ) الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو ( وانظر إلى العظام كيف ننشرها ) و ننشزها و إذا فزع عن قلوبهم و ( فزع ) .

                                                          ( والرابع ) أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها ومعناها نحو طلع نضيد في موضع ، وطلح منضود في آخر .

                                                          ( والخامس ) أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو ( إلا ذقية واحدة ) و صيحة واحدة و كالعهن المنفوش و ( كالصوف ) .

                                                          ( والسادس ) أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو : ( وجاءت سكرة الحق بالموت ) في : [ ص: 28 ] سكرة الموت بالحق .

                                                          ( والسابع ) أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو ( وما عملت أيديهم ) و عملته ، و إن الله هو الغني الحميد و ( هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أنثى ) .

                                                          ثم قال ابن قتيبة : وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى .

                                                          ( قلت ) : وهو حسن كما قلنا إلا أن تمثيله ب ( طلع نضيد وطلح منضود ) لا تعلق له باختلاف القراءات ، ولو مثل عوض ذلك بقوله : بضنين بالضاد و ( بظنين ) بالظاء و ( أشد منكم ) و أشد منهم لاستقام ، وطلع بدر حسنه في تمام ، على أنه قد فاته كما فات غيره أكثر أصول القراءات : كالإدغام ، والإظهار ، والإخفاء ، والإمالة ، والتفخيم ، وبين بين ، والمد ، والقصر ، وبعض أحكام الهمز ، كذلك الروم ، والإشمام ، على اختلاف أنواعه وكل ذلك من اختلاف القراءات وتغاير الألفاظ مما اختلف فيه أئمة القراء وكانوا يترافعون بدون ذلك إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم - ، ويرد بعضهم على بعض كما سيأتي تحقيقه وبيانه في باب الهمز والنقل والإمالة ، ولكن يمكن أن يكون هذا من القسم الأول فيشمل الأوجه السبعة على ما قررناه .

                                                          ( وأما ) على أي شيء يتوجه اختلاف هذه السبعة ، فإنه يتوجه على أنحاء ووجوه مع السلامة من التضاد والتناقض كما سيأتي إيضاحه في حقيقة اختلاف هذه السبعة .

                                                          ( فمنها ) ما يكون لبيان حكم مجمع عليه كقراءة سعد بن أبي وقاص وغيره ( وله أخ أو أخت من أم ) فإن هذه القراءة تبين أن المراد بالإخوة هنا هو الإخوة للأم ، وهذا أمر مجمع عليه ; ولذلك اختلف العلماء في المسألة المشتركة وهي زوج وأم ، أو جدة واثنان من إخوة الأم وواحد أو أكثر من إخوة الأب والأم ، فقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم بالتشريك بين الإخوة ; لأنهم من أم واحدة وهو مذهب الشافعي ومالك وإسحاق وغيرهم ، وقال جماعة من الصحابة وغيرهم بجعل الثلث لإخوة الأم ولا شيء لإخوة الأبوين لظاهر القراءة الصحيحة ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه الثلاثة وأحمد بن حنبل وداود [ ص: 29 ] الظاهري وغيرهم .

                                                          ( ومنها ) ما يكون مرجحا لحكم اختلف فيه ، كقراءة ( أو تحرير رقبة مؤمنة ) في كفارة اليمين فيها ترجيح لاشتراط الإيمان فيها كما ذهب إليه الشافعي وغيره ولم يشترطه أبو حنيفة - رحمه الله - .

                                                          ( ومنها ) ما يكون للجمع بين حكمين مختلفين يطهرن و ( يطهرن ) بالتخفيف والتشديد ينبغي الجمع ، وهو أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها وتطهر بالاغتسال .

                                                          ( ومنها ) ما يكون لأجل اختلاف حكمين شرعيين كقراءة وأرجلكم بالخفض والنصب ، فإن الخفض يقتضي فرض المسح والنصب يقتضي فرض الغسل فبينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل المسح للابس الخف والغسل لغيره ، ومن ثم وهم الزمخشري حيث حمل اختلاف القراءتين في إلا امرأتك رفعا ونصبا على اختلاف قولي المفسرين ، ( ومنها ) ما يكون لإيضاح حكم يقتضي الظاهر خلافه كقراءة ( فامضوا إلى ذكر الله ) ؛ فإن قراءة فاسعوا يقتضي ظاهرها المشي السريع وليس كذلك ، فكانت القراءة الأخرى موضحة لذلك ورافعة لما يتوهم منه .

                                                          ( ومنها ) ما يكون مفسرا لما لعله لا يعرف مثل قراءة ( كالصوف المنفوش ) .

                                                          ( ومنها ) ما يكون حجة لأهل الحق ودفعا لأهل الزيغ كقراءة ( وملكا كبيرا ) بكسر اللام وردت عن ابن كثير وغيره وهي من أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة .

                                                          ( ومنها ) ما يكون حجة بترجيح لقول بعض العلماء كقراءة ( أو لمستم النساء ) إذ اللمس يطلق على الجس والمس ، كقوله تعالى : فلمسوه بأيديهم أي : مسوه . ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : لعلك قبلت ، أو لمست . ومنه قول الشاعر :

                                                          وألمست كفي كفه طلب الغنا

                                                          ( ومنها ) ما يكون حجة لقول بعض أهل العربية كقراءة ( والأرحام ) بالخفض ، و ( ليجزى قوما ) على ما لم يسم فاعله مع النصب .

                                                          ( وأما ) على كم معنى تشتمل هذه الأحرف السبعة ، فإن معانيها من حيث وقوعها وتكرارها شاذا وصحيحا لا تكاد تنضبط من حيث التعداد ، بل يرجع ذلك كله إلى معنيين :

                                                          ( أحدهما ) ما اختلف لفظه واتفق [ ص: 30 ] معناه ، سواء كان الاختلاف اختلاف كل ، أو جزء ، نحو ( أرشدنا ) و اهدنا و العهن و ( الصوف ) و ( ذقية ) و صيحة و خطوات ، و ( خطوات ) و هزوا و ( هزا وهزؤا ) ، كما مثل في الحديث : هلم ، وتعال ، وأقبل .

                                                          ( والثاني ) ما اختلف لفظه ومعناه نحو ( قال رب ) وقل رب و لنبوئنهم و ( لنثوينهم ) و يخدعون و ( يخادعون ) و ( يكذبون و يكذبون ) و ( اتخذوا ) واتخذوا و كذبوا و ( كذبوا ) و لتزول و ( لتزول ) . وبقي ما اتحد لفظه ومعناه مما يتنوع صفة النطق به كالمدات وتخفيف الهمزات والإظهار والإدغام والروم والإشمام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات ، ونحو ذلك مما يعبر عنه القراء بالأصول ، فهذا عندنا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ ، أو المعنى ; لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا وهو الذي أشار إليه أبو عمرو بن الحاجب بقوله : والسبعة متواترة فيما ليس من قبيل الأداء : كالمد ، والإمالة ، وتخفيف الهمز ونحوه ، وهو وإن أصاب في تفرقته بين الخلافين في ذلك كما ذكرناه فهو واهم في تفرقته بين الحالتين نقله وقطعه بتواتر الاختلاف اللفظي دون الأدائي ، بل هما في نقلهما واحد وإذا ثبت تواتر ذلك كان تواتر هذا من باب أولى ، إذ اللفظ لا يقوم إلا به ، أو لا يصح إلا بوجوده وقد نص على تواتر ذلك كله أئمة الأصول كالقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني في كتابه الانتصار وغيره ، ولا نعلم أحدا تقدم ابن الحاجب إلى ذلك والله أعلم . نعم هذا النوع من الاختلاف هو دخل في الأحرف السبعة لا أنه واحد منها .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية